بحث في الموقع


يبدو أن النجاح الذي حققته رواية "مدن الدخان" للكاتب أحمد الدويحي ، في معرض الرياض الأخير للكتاب ، جاء على خلفية ثلاثيته "المكتوب مرة أخرى" ، التي تعد بحق بصمة في عداد الروايات السعودية ، الصادرة في السنوات الأخيرة . وقد حققت الرواية رقما قويا في مبيعاتها ، وهي تصدر في طبعتها الأولى ، عن دار الكنوز الأدبية ، من لبنان . وليست تجربتي في هذه القراءة الهابرة لروايته مدن الدخان هي الأولى

، فقد امتزجت بأعمال الكاتب السردية، وتمثلت فيها أسلوبا سرديا عاليا، يجعلني أتابع جديده، وأقف عليه، فالسرد لدى الدويحي ليس مجرد توظيف تقني بارد للزمن والحدث والشخصيات، بل إن فلسفة عالية للحياة وللوجود تقف خلف الكتابة لديه، غير أنه لا يمكن لي مهما تعصبت لروح تلك الفلسفة التي تكتبني كثيرا أن أنكر ما أجده من اللامبالاة تطل بوجهها كثيرا من خلال السطور، وتحرمني من التميز الذي أتمناه لهذا الكاتب الجدير جدا، إلا أنها لا مبالاة نابعة من الجو الإبداعي المحبط في منطقتنا، فمن يستطيع أن يطالب المبدع أن يتفرغ لإنتاج عمل إبداعي محترف وهو المشغول بوظيفة ومسؤوليات أبعد ما يكون عن الإبداع، ثم هو فوق ذلك محروم من قنوات النشر والتواصل مع الجمهور والمثقفين والمبدعين الآخرين، ومن كل ما يشجعه على الإبداع والإنتاج والتنافس الشريف، على أية حال، أشكر من أتاح لي الفرصة للحديث الموجز عن أحد كتابي المفضلين وأساتذتي اللغة والفكر المستقل.

ولعل أهم مفاتيح الكاتب أحمد الدويحي ، للولوج الى عالم الكتابة ، في مدن الدخان ، هو لغته . تلك اللغة التي تجمع بطريقة ملغزة بين البساطة والتعقيد ، بين الشعرية والنثرية ، هي لغة شعرية بقدر ما هي مكثفة ورمزية ، لكنه تكثيف ورمزية مسخران لخدمة الحدث ، حيث يتم اختزال الوقائع عن طريق ضغطها في جمل قصيرة ، ومجازات تقفز بالقاريء على ضفاف الوقائع ، دون أن تفلت من يده التفاصيل المهمة . وهي لغة نثرية بقدر ما هي مفخخة بتلك التفاصيل ، التي تباشرها بلمسات خفيفة ، من التحليل والتفكيك ، تحافظ على الحدث مفتوحا باتجاه التأويل المثري . بهذه اللغة المزدوجة ، يحول الكاتب كل مفردة في عمله إلى دليل فاعل ، متاح للتأويل ، بحيث يمكننا القول ، إن حبكة هذا العمل ، وشبكة أحداثه ، تمتد الى كل مفردة فيه ، بقدر ما تكون كل مفردة قادرة على التدليل .

" وصابر جاء من زمنٍ بعيد إلى هذه الدنيا. جاء قبل أنْ يخطفه جوّ هذه المدينة، لتأخذه من حياةٍ بسيطة، ملؤها مخبئات طازجة، لغزلان جبلية متقافزة حرّة، ترعى في الفيافي البعيدة، لتعصف به رياح الحياة، وترمي به في صحراءٍ شاسعة، كطائر هدّه التعب،" .عبر تلك اللغة المفخخة بالتفاصيل ، لا يعود هناك فاصل بين ما هو هامشي وما هو مركزي ، فمستشفى الشميسي ، وتفاصيل حي المرقب ، وطريق صابر من عمله عبر حي الصفاة للبيت ، كلها لا يمكن اعتبارها عرضا تمهيديا ، وهامشا يمهد لحدث معين ، بل هي تشكل أجزاء من جسم الحدث الرئيسي ، الذي يتشظى لأحداث مجهرية ، ما بين قدوم صابر للرياض وموته . بهذه الطريقة تستغرق الرواية اهتمام القاريء من أول مقاطعها ، حيث يدلف إلى صلب الحكاية ، من أول مشهد الجثة ، ويمضي معها إلى أن تستدير الحكاية وتعود لنقطة النهاية . إنها طريقة لاحتواء كامل انتباه القاريء من أول لحظة لقائه بالنص ، إلى زمن منفتح على دهشة ليست محدودة بحدود النص .

زمن الحكاية ، هو زمن عامودي، زمن التحولات الكبيرة ، جيل عاش قضية الأمة ، ضياع فلسطين ، وحروب بين الأخوة . هجرة أبناء الريف للمدن ، ونشوء جيل من المتعلمين ، يحاول تحويل الوطن معه إلى سكة الزمن الحديث . أما زمن الخطاب فهو زمن خطي أفقي، فيه تتراكم الذاكرة، وتتجاور الأحداث والوقائع خطيا، وإن يكن هذا التداعي الخطي يتخذ موقع الانطلاق من الخلف، حيث تأخذ عدسة الزمن في مدن الدخان موقع الاسترجاع ، فالرواية تبدأ بختام الحكاية ، بمشهد جثة البطل ، صابر ، وتبعث الحياة في تلك الجثة بالتدريج ، منذ بداية قدوم صابر للرياض ، فتى يافعا ، إلى نهاية اشتباكه في خضم الحياة ، وموته متأثرا بواقع الحياة الصعب ، كما يشير المقطع الذي يسأل فيه الطبيب صابر عن قلبه : " أريد أن اسمع منك، ماذا شعرت به ليُتعب قلبك..؟ " . يتخلل استرجاع الحكاية من قبل السارد ، لقطات من مشهد الموت ، خاتمة الحكاية ، التي افتتح بها السرد ، بحيث تتحول حركة السرد إلى استرجاع متكرر ، تقوم فيه أجزاء الحكاية ، جسورا يتصل عبرها مشهد الختام ، مرض صابر ووفاته في مستشفى الشميسي .

زمن الحكاية هو زمن متأرجح بين الماضي والحاضر ، تهتز فيه القيم اهتزازا قويا ، لا يقوى صابر بطل الرواية على استيعابه ، فيأخذ دور الشاهد والمراقب ، على ذلك الزمن ، ولعل هذا الدور يتكثف أكثر عبر مهنته ، التي يأخذ فيها دور الرقيب على المشاهد التلفزيونية . الرقيب الذي يمزق ويرتق المشاهد ، كما يحدث – انعكاسا لدوره - في الرواية . كأنما يرسم صابر لوحة تجريدية لواقع يشاهده ويحاول تفسيره وتقديمه بالشكل الذي يفهمه به، زمن حكايته هو الوجه الذي يحاول من خلال السرد أن يحدده ويشرح تعابيره، عبر التراكم الخطي الاسترجاعي للذاكرة.

التشخيص في مدن الدخان نفسي غالبا ، فالشخصيات حاضرة بسماتها النفسية ، أكثر من حضورها الجسدي ، ابتداء من صابر الذي لا يرد وصف جسدي له ، وليس انتهاء ببسمة ، التي لا نعرف عنها أكثر من نباهتها ، وجرأتها ، عبر حوارها مع صابر . وتبعا لهذا التركيز على الناحية النفسية ، تركز الحبكة على الصراعات النفسية للشخصيات ، في زمن مليء بالتناقضات . تجسد الحبكة تناقضات الزمن التي تعج بها الحكاية ، في محاولة لحلها عبر السرد ، حيث تتبادل السرد شخصيات من الحكاية ، مع الراوي الخارجي ، في ومضات خاطفة ، يتم فيها تقليب الحكاية على أكثر من وجه ، وسردها من أكثر من زاوية .

في مدن الدخان ، لا يؤثر دخان المدن على لون البطل صابر الشاحب وحسب ، بل يمتد ليغلف كل عناصر النص ، حيث تختلط في الحكي شخصية صابر بشخصية الفتى ، الذي يشكل بحضوره الرمزي شخصية رئيسية في الرواية . غياب الاسم هو تأكيد لحضور الفعل ، فما هو الفعل الذي يؤديه الفتى في الحكاية والحبكة ؟ الفتى رمز لضياع الهوية ، الذي يظهر في تبادل مواقع السرد ، من الراوي ، لصابر ، للفتى ، وضياع خيط السرد بين الثلاثة ، الهوية التي ضيعها صابر في دخان المدينة ، وقضى نحبه باحثا عنها .