بحث في الموقع

د. حسين المناصرة

لا أريد أن أتوقف عند تلك الليلة التي خصصت لنقد رواية الدويحي في ملتقى ناي القصة بجمعية الثقافة والفنون ، وإن كنت أعتقد أن ما قاله المنتدون آنذاك – ومعظمهم من الساردين _ يصنف تحت سقف آراء مشروعة بحكم أن ما يقال – عادة- في مثل هذه اللقاءات هو أفكار تلقائية نسبياً ، و تداعيات ورشة عمل تذوقية ، وخاصة عندما لا يكون هناك أوراق نقدية معدة مسبقاً .


ولا أريد هنا – أيضاً – أن أتوقف عند ما نشره الصديق الدويحي احتجاجاً على هذا اللقاء ، أو عند ما نشره علي سعيد القحطاني صدى لما حدث، لأن بعض ما يقال أحياناً في مثل هذه اللقاءات النقدية – كما أشرت - قد يحمل بعض المجاملات، أو ما يقابلها من العداء الواضح بحكم الميول والأهواء ، وهنا لا يمكن على أية حال من الأحوال الحديث عن النقد المتجرد من الغايات والبواعث المدفونة.
يهمني في هذه المقاربة أن أتوقف عند ذاكرة \"الهذيان\" في الرواية ، بصفتها ذاكرة الكتابة السردية المغايرة لما استقر تقليدياً إلى حد ما في التعبير عن كينونة السارد الموجوع بآلام شخصياته المستلة من العلاقة بين ذاته وأصدقائه من جهة،وفي مواجهة الواقع الذي يحويهم من جهة أخرى ، وشخصيات الرواية الثقافية من هذه الناحية تنبع من وجدان مبدعها ومن حالته الشعورية العامة في سياق الحركية داخل الواقع المأزوم بإشكاليات كثيرة، بوصف الإبداع -كما شاع لدينا – تعبيراً عن أزمة يحسها المبدع أكثر من غيره .
طبعاً ، من الصعب أن أتذكر الكلام الذي قلته عن الرواية في الملتقى المذكور ، لكن بإمكاني أن أتخيله في السياق التالي مُبَهّراً بنكهة التوضيح :
قلت : تتكئ الرواية على لغة التداعيات الشعرية من بدايتها إلى نهايتها ، وهنا من حقنا كمتلقين لهذه الرواية أن نتساءل عن : أين الحكاية في الرواية ؟ يبدو أن الدويحي يريدنا ، بوصفنا قراءً ، أن ننتج حكاية لروايته ، لأنه – في تصوري – لم يقدم في هذا الجانب أية بنية حركية هرمية أو مفككة لحكاية ما . من هنا أقول : إن بنية الرواية بنية سيرية شاعرية ، وهنا نقف أمام إشكالية العلاقة بين الرواية السيرية وتداعيات قصيدة النثر على سبيل المثال ، وفي ظني أن السرد على العموم لا يكتفى بجماليات اللغة الشعرية ، لأنه بحاجة إلى جماليات السرد المتمثلة في حكاية ما ، تتمكن من لملمة خيوط السرد المنفتح على التداعي والتشتت والإرباك ، لذلك تعد الحكاية مفتاحاً حقيقياً ضرورياً في تعريف السرد !!
أشير أيضاً إلى أن عنوان الرواية ينسجم مع متنها،فهي كتابة مفتوحة ، لأن أبطالها مبدعون،وشعراء على وجه التحديد، مما جعل اللغة تداعيات في الذاكرة بصفة البطل الرئيس في الرواية غير قادر على الكلام أو هو عاجز عن الكلام بسبب مرض ما، من هنا يمكن أن نبرر الشاعرية التي هيمنت على الرواية ، فأحالتها إلى خطاب ذهني يتماثل مع الهذيان أو بتعبير أدق يشكل الهذيان الذي يعيشه البطل على سرير المرض…
الكنّاسون في الرواية هم مبدعون ، يعانون من العوز والمرض ، وهنا تحضر الدلالات العميقة المفضية إلى صداقات الدويحي نفسه من خلال رفقة دربه الذين يعانون أزمات عديدة، كما يتصوّر، والدليل على ذلك أنك تجد ظلال إبراهيم الناصر،وحسين علي حسين،وعلي الدميني، وناصر الخزيمي،وعبد العزيز المشري، ومحمد المنصور، وعبده خال..وغيرهم. وهذه الصداقات هي التي غيبت الأسماء المتخيلة عن متن الرواية،وأحلت مكانها حالات الشخصيات المرضية أو الإبداعية ، وكان من الأولى أن يعطينا الدويحي أسماء محددة لنتعامل من خلالها مع كتابة سردية متخيلة لا كتابة سيرية متقوقعة على الذات \"الجمعية\" وظلالها في الواقع.
وكذلك مثلت شخصيات النساء في الرواية حالات محدودة للغاية ، أهم ما يبرر هامشيتها أن البطل أو الشخصية الأولى يبحث عن فتاته التي لم تحضر بعد ، والحقيقة أنه عاجز !! ينتظرها في بحثه عنها ، ثم لا يجدها في النهاية ، وهنا يمكننا أن نتساءل عن هذا التغييب المتعمد للنساء عن بنية الرواية ، قد نفسر ذلك بأن الرقابة الداخلية التي يزرعها الدويحي في رصاصة قلمه بخصوص الحديث عن علاقات بطله بالنساء تبدو رقابة قاسية إلى حد ما ، ربما تخوفاً من إحالة اعترافات البطل في هذا الجانب إلى اعترافات تصدر عن الدويحي نفسه ؛لأنه كما ذكرنا ينجز في هذه الرواية سياق التداعيات من خلال الإيغال في تفاصيل الذاكرة المأزومة ، مما يحيل الرواية إلى اعترافات أو سيرة ذاتية ، بغض النظر عن قبول الكاتب أو رفضه لهذا الرأي!! من هنا تبقى البطلة المنتظرة أسطورة لا تحضر،لأنها ببساطة منتظرة الحضور، أي لا يوجد هناك بحث جاد عنها ،وهنا تبدو إحدى صورها الخرافية على النحو التالي :\"إنها بطلة منتظرة بشغف ، وزّعها بين هواجسي وظنوني ، شاعر مجنون سافر، وظل شيطان يصورها كعناقيد في باب السماء ، ثم لاح في وجهي كوجع الروايات .. ( ص37 )\" .
أعتقد أن الدويحي من ناحية أخرى – غير خاصية الكتابة السيرية الشعرية - استفاد كثيراً من ثقافته السردية التي تميل إلى الشعري الإيحائي في كل ما كتب من قصص وروايات ( انظر أعماله السردية: \"البديل\" ، \"ريحانة\"، \" قالت فجرها \"، \"أواني الورد\") ، أي أنه استفاد في بنياته السردية من الروايات التي قرأها ، مما جعل الرواية لديه - على وجه العموم - تميل إلى الثقافي في توليد الأفكار ، مما سبب تغييب الحدث والحكاية.
المسألة التي ألوم فيها الدويحي؛ هي أنه لم يقدم الفقرة السردية أو الجمل السردية متسلسلة مترابطة على وجه العموم، بمعنى أن لغته تبدو في أحيان كثيرة قلقة متنافرة بطريقة سلبية، مع إمكانية أن نفسر هذا التنافر في سياق ميل الرواية إلى التداعيات التي غايتها ضرب الرتابة والتقريرية ، لكنني أعتقد أن هذا التفسير غير مبرر جمالياً ، لأن الرواية – في ظننا - يجب أن تؤكد لقارئها سلاستها وترابطها . يضاف إلى ذلك وقوعه في أخطاء لغوية وأسلوبية ، كان بإمكانه أن يخلص روايته منها ، فيما لو عرضها على متخصص في تقنيات اللغة العربية السليمة..ويجب ألا يؤخذ هذا الأمر في سياق التهاون، ومهاجمة النقد الذي يتعرض لمثل هذا الجانب المهم في الشكل والجوهر من وجهة نظري. بل إن الدويحي نفسه يقر بهذا العيب عندما يجعل إحدى الشخصيات النسوية تقول لبطله المبدع (أي الدويحي) : \" الشيء الوحيد ، استطيع فعله ، أصحح لك أخطاءك اللغوية الفظيعة! ( ص70)\" .
من ناحية أخرى كتب لنا الدويحي في روايته مقدمة سردية (حكاية)على طريقة الحكايات الشعبية في ألف ليلة وليلة، وهي حكاية \"فاضل السقاء\" مع الجن خلال طريقه من الجنوب إلى مكة للعمل والكسب في موسم الحج.وهذه الحكاية بدت منقطعة الصلة عن أقسام الرواية،دون الانقطاع الشعوري،وكأن الدويحي شعر بأن روايته ذات بنية التداعيات تحتاج إلى حكاية من نوع مألوف شعبي، فقدم لها بهذه الحكاية، ربما ليبث التشويق لدى المتلقين،على طريقة المقدمات الغزلية في الشعر العربي القديم ..


* * *

الرواية من مقدمة وثلاثة عشر قسماً ، لا تعني فواصل جمالية أو رؤيوية محددة ، فالرواية قدرة من التداعيات ، كما ذكرت، حيث يمتلك الدويحي درجة عالية من الثرثرة الأدبية ، وهذا ما يبرر كون هذه الرواية الجزء الأول من ثلاثية فأكثر ، إذ أخبرنا الدويحي أنه انتهى من كتابة الجزء الثاني من هذه الثلاثية ( نشر فيما بعد ثلاثيته كاملة )، وإذا سار على سياق هذه التداعيات ؛ فإنه لا شك سيكتب عدة روايات.. مع أنه ، وللحق ، لم يسمّ كتابه رواية، بل نجد الناشر – ربما بالتواطؤ مع الدويحي - يسميان هذا الكتاب / الرواية : \" نصاً \" يشكل الجزء الأول من \" ثلاثية تأملية لتجربة استشرافية ،حيث يسعى إلى توظيف الأسطورة والخرافة في الجزيرة العربية، ويصبغ النص بلغة شعرية رقيقة وغنائية موحية لا تخلو من الصوفية…(انظر غلاف الرواية )\".
وفي هذا السياق أيضاً تشعرنا الرواية – لا بد أن نسميها رواية ، لأن الرواية غدت عالماً سردياً مفتوحاً - أنها منفتحة في نصها وفي النصوص المنتظرة في الأجزاء المتبقية ، على عالم التداعيات الرهيب، الذي له خاصية الانفتاح على اللغة، والشخصيات ، والزمكانية ، والرؤى .. ممثلاً على ذلك بما نجده في النص التالي:\"دخلت في فراشي على حياد تام مع كل الأشياء حولي ، أوراقي ، وكتبي، وبطلات الروايات، والبطلة المنتظرة ، وزهوري ، ببغائي،ساري، عمتي، وأصدقائي الكناسين، المندوب ، شاعري، وظلال ظلي ، وخصوصاً ( خسفوا)، والولد كان عليّ أن أحرره، أوصدت بابي على كل ما هو خارج غرفتي، لأصر أوامري، وأطفئ الضوء في لحظة واحدة، مسكتاً كل الأشباح، التي تختال في ذاكرتي ( ص112)\".
لا يمكن فهم الفقرة السابقة بعيداً عن سياق التداعيات السابقة واللاحقة ، لكن الاستدلال بهذه الفقرة التي توحي بتعميق وعي الكتابة الساكن داخل البطل ، تفضي إلى المرجعية التي تقلق المبدع ، وتدفعه في هذا الزمن المشبع بالانفتاح على العالم إلى أن يتقوقع على ذاته ، فيوهجها من خلال \"المونولج\" الداخلي ( تيار الوعي) على صفحات الورق المكون لرواية تتوقف بسبب توقف الكاتب عند درجة محددة من الإشباع الهذياني؛ أبرز سمات الكتابة السردية الجديدة بمفهوم التطور لا الحداثة .
نهاية الكلام أن ما حدث تلك الليلة بخصوص ما سمي \" مذبحة الدويحي \" في جمعية الثقافة والفنون،كان نتيجة القراءة الأولى التي تستفز القارئ ، لأن رواية الدويحي هذه كما يبدو رواية مستفزة ، تستثير شهوة الكلام ضدها ؛ بصفتها تتكئ على الهذيان ، وتخلو من الحكي التقليدي،لذلك كانت جل الآراء تختلف مع مشروعية هذا النص / الرواية ، وهنا لا أبرر لمن علق على الرواية دون قراءتها كاملة، لأن هذا التعليق إما أن يكون \"أعرج\" أو \"خفاشياً\" ، لكنني بكل تأكيد أتفق إلى حد كبير مع الآراء التي بررت لنفسها جمالياً ومنطقياً في نقدها الرواية، متوقعاً أن تكون القراءة الثانية لهذه الرواية أكثر حكمة في بلورة الرؤى المتزنة تجاهها، مما يعني تحجيم الرفض والمصادرة التي تعودها \" الهواشون\" في المنتديات والملاحق الثقافية !!
ربما تكون هذه دعوة لقراءة الرواية مرة أخرى،على طريقة \"المكتوب مرة أخرى\" ، مع اعترافي بأنني كتبت هذه المقاربة في ضوء القراءة الأولى ، حيث لم يتح لي المجال من جهة ضيق الوقت آنذاك لتقديم ورقة معدة مسبقاً.

د . حسين المناصرة

جريدة الجزيرة 11/7/2002