أ.على عفيفي

عرفنا فيما عرفنا تصنيفات كثيرة للكتابة الروائية، مثل تيار الوعى ، والعجائبية، والسريالية ، والرواية التاريخية والسيرة الذاتية ، وغيرها، من الأشكال الكتابية التى اندرجت تحت النوع الروائى، وإذا كان النقاد والقراء لا يطلقون الأكاذيب بقولهم إن الكاتب حر فيما يكتب، وإذا كانت نظرية القراءة تجعل من القارئ شريكا فى إنتاج دلالات النص طبقا لطبيعة هذا القارئ ، وجدنا أنفسنا فى مأزق صعب عندما نقارب رواية أحمد الدويحى ( مدن الدخان ) ، فهى تقدم نوعا جديدا من الكتابة الروائية

، قد يصح لى أن أطلق عليه رواية الهذيان الواقعى ، فهى رواية مخلصة لكل شئ، خارجة عن كل شئ، ولعل الناقد يتجاوز الخطوط الحمراء فى علاقته بالكاتب إذا حاول الاقتراب من شخص الكاتب نفسه، وتقييم شخص الكاتب ومعرفته، وطبيعة علاقته بالعوالم الروائية ، ولعل المسألة تزداد تعقيدا إذا كانت هناك علاقة شخصية تربط بين الناقد والمؤلف كما هو الحال بينى وبين صديقى أحمد الدويحى، لكن النقاد بخبثهم المعتاد، ويبدو أنهم تحسبوا لمثل هذه الحالة، فباعدوا بين النص ومؤلفه ، وهو الإجراء البنيوي الأول فى المنهج البنيوى ، الذي يقول بعزل النص عن خارجه ، ولكن هل يمكن بالفعل أن نعزل نصا عن خارجه ، وبخاصة إذا كان هذا النص ينطوى على أسماء شخصيات موجودة بالفعل فى الواقع ، وأماكن وأزمنة ، ولكن أيضا هل تظل الأشياء المنقولة إلى عالم روائى كما هى، ألا تنحرف بوجودها ضمن سياق روائى عن طبيعتها فى الواقع، فإذا أضفنا إلى ذلك زمن الكتابة وزمن القراءة وجدنا أنفسنا فى ورطة حقيقية اسمها ( مدن الدخان ) ذلك أن هذه الرواية تثير كل الأسئلة في آن، ثم تتركك بعد قراءة صعبة لاهث ا، شاعرا بفراغ القلب ، والحنين ، تأخذك إلى التشوهات الإنسانية التى تشعر أنها عادية ما دامت الأحداث حدثت فى هذا الواقع بهذه الطريقة، فالنتيجة الطبيعية يجب أن تكون شخصيات مشوهة معوقة ، كما تكشف الرواية عن عوالم مزيفة، وعوالم متزمتة، وعوالم فاسدة ، وعوالم مريضة في آن.

وأي غرابة فى هذا، وهذا حال العالم ، بل والخليقة منذ الأزل ، ألم يقل الملائكة لله عندما أنبأهم : إنى جاعل فى الأرض خليفة ، فقالوا: أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، كانوا يعرفون كما علمهم الله طبيعة ما سيحدث على الأرض ، وهو الإفساد ، ألسنا نفسد حيواتنا ، وأوقاتنا وشاشاتنا، وأطفالنا، كما نفسد البيئة ، ونقتل بالحروب ، ونضع المواد الكيميائية القاتلة فى الطعام الذى نأكله ، ألم نفسد التعليم والثقافة، والإعلام، والتاريخ والجغرافيا ، نعم نحن نعيش في عالم فاسد ، يتولى فيه غير العارفين مقاعد المعرفة ، والمتهافتين مقاعد الفتوى ، وغير القادرين مقاعد القرار، هكذا نعيش فى عالم مقلوب الصورة ، ونريد من قاطنيه أن يظهروا معتدلين ، كيف ذلك والإنسان لا يستطيع السير فى الهواء، ولا السيرعلى يديه.
نعم يبدو الكلام خارجا عن سياق الرواية والمقدمة طويلة ، هي كذلك ، لكنها ضرورية وعادية وشيقة وبسيطة ومهمة ، فالرواية فيها كل ما فى المقدمة، لكنه موجود على شاكلة متشظية، على القارئ أن يتحلى بصبر طويل جدا لكى يجمع هذه الشظايا، لكى تجتمع عنده صورة يمكنه النظر إليها، لأنه إذا أمعن النظر في كل شظية على حدة فلن يري شيئا على الإطلاق سوى قطعة من شئ مكسور لا يدري شكله ولا طبيعته ولا معناه، وهو كذلك عليه لكى يستطيع تجميع هذا العالم المحطم أن يجد العلاقات الموجودة بين هذه الشظايا، لكى يصل إلى صورة صحيحة.
لكن هل توجد صورة صحيحة واحدة للقراءة ، هل يمكن أن يخرج كل القراء بالصورة نفسها من القراءة نفسه ا؟
الإجابة لا.
بقراءة مدن الدخان سوف تتشكل صور مختلفة، من الشظايا نفسها، ولذلك لن أدعى أن قراءتى لمدن الدخان هى القراءة الصحيحة، أو الوحيدة، لأنه مثل هذه القراءة غير موجودة بالأساس.

الراوى الميت الحي صابر:

مثل هذا العنوان يبدو غرائبيا، لكن قبل أن نتحدث عن غرائبية الراوى علينا أن نحدد بعض ملامحه، ولكى نحدد هذه الملامح علينا بقراة الصفحتين الأوليين من الروائية، فهما ومعهما الصفحة الثالثة تمثل ثلاثتها الفقرة الافتتاحية فى الروائية، على الرغم من أنها ليست فقرة واحدة، ولكن النقاد يحتفون دائما بهذه الفقرة الافتتاحية لأنها مهمة بالفعل، ولأنها دائما ما تحدد الأطر التى ستحترك فيها الشخصيات وتجري فيها الأحداث، نقرأ:
غادرت وجثة صابر تنتظر الدفن، والجسد إذا خرجت منه الروح، فلا بد من نهاية تحفظها إلى الأبد، وكان الجو حارا وخانقا. إذ وقفت في محطة وقود، وحكاية التصرف بجثته تملأ رأسي، حينما اقترب العامل البنجلاديش يحمل أنبوب البنزين، ليصب بنزينا فى مؤخرة سيارة عابرة، فارتد منتكسا نافرا يرتعد برعب، يضع يده على وجهه، مغلقا فتحتي أنفه، ويغرس جسده النحيل المدسوس في بدلة زرقاء، ووجها أسمر لفحته شمس الصحراء وقيظها الجاف، وإمارات الاشمئزاز والذهول، ومزيج من علامات خوف ارتسمت على ملامحه، وتطايرت كلمات غير مفهومة من بين شفتيه، أربكت حركة المارة فى محطة، لبيع الوقود..
ساد الخوف والتوجس للحظات...
يا ساتر، الشوارع مختنقة، وفي كل شارع نقطة تفتيش، تتلصص منها عيون متوجسة. سيارات على الجانبين لرجال الأمن. التفجيرات في كل مكان، والخوف والقلق والتذمر في الوجوه، وهذه الجثة تلبسني قضية خطيرة، لا أحد يبرئني منها..
رائحة نافذة، تزكم الأنوف، وتعمي العيون، استأنست قطة صغيرة بظلال قيلولة صيف، لتنام بهدوء مطمئنة في مقدمة السيارة، قبل أن تلوكها المراوح الحديدية القاسية، وتهرس عظامها، فتحيل جسدها الطري إلى فتات، تسري بينها الديدان...
سأحدثكم عن صابر كما يستحق، لا عن جثة ميت يحكى عنوة سيرته. بل سأحدثكم كيف تتخلق شخصية ما غير صابر، لا أعرف كيف أقتنص من تلك اللحظات المارقة حوله، فهو على بعضه، عالم من التحولات العميقة، وفى الطحن حول شخصه، وما عرف وما رأى وما سمع، وجزء مما نهمس في سنوات خلت، خيوط من نسيج يقود إلى رؤية ما نريد أن نرى وما لا نريد. وهي على كل حال إشكالية ليست ذي بال، لأن الإنسان قد يكون ضد نفسه في كثير من المحطات، وقد يلعب القدر والحظ دوره، وخلق ما لا يكون في الحسبان.
هل رأيتم أو سمعتم بميت يروي سيرته، قال صابر، سأحدثكم عن هذا العالم، لأتنفس رائحة محطات الطحن. فقد أجد أحدهم مازال متعلقا بأهداب تلك اللحظة، وما علي كيف تصل إليك، بقدر هم الوصول إليه، فتعال معا نستدل مما نعرف إلى ما لا نعرف؟ نفتش معا في سراديب هذا العالم الملئ بالمتوازيات الهندسية. فقد نرى فيها وجوها نعرفها. وصابر جاء من زمن بعيد إلى هذه الدنيا. جاء قبل أن يخطفه جو هذه المدينة، لتأخذه من حياة بسيطة، ملؤها مخبئات طازجة، لغزلان جبلية متقافزة حرة، ترعى في الفيافي البعيدة، لتعصف به رياح الحياة، وترمي به في صحراء شاسعة....

إن العبارة الأولى غادرت وجثة صابر تنتظر الدفن تشير بغير لبس إلى وجود راو يتحدث بضمير المتكلم، يزف إلينا خبرا عن موت شخص يسمى صابر، وقد ترك الراوي صابر ينتظر الدفن وغادر المكان وتوجه إلى محطة وقود.
ويتلاعب بنا الراوى، وبالموت وبجثة صابر عندما يقول: وحكاية التصرف بجثته تملأ رأسي، وكأننا عندما سيشم العامل البنجلاديشي رائحة كريهة من السيارة سنعتقد أن الراوي يحمل صابر في سيارته وأن جثته بدأت فى التعفن، لكن المفآجات ستكون أشد بعد قليل، إذ سنعرف أن هذه الرائحة صادرة عن قطة ميتة فى موتور السيارة، لكن كيف لم يشم الراوي هذه الرائحة، وهو داخل السيارة، ترى لأننا سنعرف بعد قليل أن الراوي هو نفسه صابر، وأن صابر هو الذي سيحكي حكاية موته، ومن ثم لا يمكن للميت أن يشم رائحة موته، أم لأن رائحة الموت منتشرة فى كل مكان حيث التفجيرات فى كل مكان، كما يقول فى مقدمته:
يا ساتر، الشوارع مختنقة، وفي كل شارع نقطة تفتيش، تتلصص منها عيون متوجسة. سيارات على الجانبين لرجال الأمن. التفجيرات في كل مكان، والخوف والقلق والتذمر في الوجوه، وهذه الجثة تلبسني قضية خطيرة، لا أحد يبرئني منها..
هل يقصد جثة صابر التي يرتديها هو، بالتأكيد هو لا يقصد جثة القطة، وفى هذه الفقرات تتوالى الدلالات وتتوالد، ولا يجب أن نتعامل الآن مع هذا الراوي المراوغ الغامض المشوق تعاملا بريئا، فهو منذ البداية يتلاعب بالمروي عليه، إلى أن يعلن عن لعبته التى تزيد الموقف غموضا وتلاعبا:
هل رأيتم أو سمعتم بميت يروي سيرته، قال صابر، سأحدثكم عن هذا العالم.
لقد حددت الفقرة الافتتاحية اسم الراوى الذى يتحدث بضمير المتكلم، وهو من ثم راو شارك فى الأحداث وقت وقوعها، لكنه وهو يحكيها للمروي عليه قد أصبح مفارقا لها.
لكن لماذا وقف بنا الراوى وتركنا فى محطة الوقود، لقد باغتنا بخفة وسرعة وانتقل بنا من محطة الوقود دون أن يتحرك هو منها، وذهب بنا إلى موطنه الأول فى جنوب البلاد حيث ولد وعاش بداياته، ومنذ ذلك الحين اخذ فى التقافز فى الزمان والمكان والحدث، واللغة، ولم يعد مرة أخرى إلى المحطة، هل كان يقصد أن البلاد كلها ليست إلا محطة وقود يفوح فيها الموت، هل يقصد بموت صابر موتا حقيقيا أم موتا مجازيا، لأن ذلك سوف يحدد طبيعة التلقى، فإذا كان صابر قد مات بالفعل، وهو أيضا من يحكى الرواية فمعنى ذلك أننا بصدد رواية فانتازية، لكن الواقع، أن القادم من الرواية ليس فانتازيا من قريب أو بعيد.
هل الشخصية تحمل موتها أثناء حياتها؟ سوف تظل الإجابات مفتوحة حتى بعد انتهاء الرواية، إذ لا يهتم الراوى فى أي لحظة من لحظاتها بالإجابة عن أى سؤال.

لقد فتح الراوى لنفسه مساحات شاسعة الحرية أخشى أنه نفسه قد تاه فيها، كما يحدث لقارئه فى أحيان كثيرة، فهو على صعيد اللغة يراوح بين الحكمة الرصينة المصاغة صياغة جميلة مثل: فليس من قول يظل ثابتا، وليس من حياة تظل على وتيرة واحدة (ص 9) لكنه فى أحيان أخرى يسوق جملا لا يمكن تفسيرها مثل: عجزت سطوة قاسية صيد طيور مهاجرة، تتظلل برحيق دفء مده الحظ، ولتحضنهم طواحين الهواء (ص 9- 10) .
إذ لا يمكن فى جملة كتلك فك طلاسم الضمائر ولا استيعاب الجملة على مستوى التركيب، ولا إيجاد مناسبة لوجودها فى هذا الموضع.
إن عنوان مدن الدخان الذى تحمله الرواية لا بد أن يحيلنا إلى عنوان مشابه لروائى راحل هو عبد الرحمن منيف الذى كتب مدن الملح، لكن هذا التشابه العنواني لا يلبث أن يزول بمطالعة مدن الدخان، ومثار التشابه واضح فى العنوانين بإضافة صفة إلى كلمة مدن، كما أن كلا الكاتبين يحمل الجنسية نفسها.
كما يحيلنا العنوان أيضا على ما أطلق عليه نقديا برواية المكان، إذ هناك دراسات أكاديمية كثيرة تناولت المكان من أشهرها كتاب جاستون باشلار جماليات المكان؛ ولا يمكن لإنسان تجاهل المكان والزمان فى الرواية ولا فى غيرها من الفنون أو فى الواقع، لكن الحقيقة أن كل الأحداث الروائية وغير الروائية تحدث في مكان، والحقيقة أيضا أن طبيعة المكان لا بد أن يكون لها تأثيرها على الشخصيات والأحداث والسرد، ومن ثم يمكن إطلاق مقولة رواية المكان على أى رواية، كما يمكن سحب هذه التسمية عنها باعتبارها مقولة شديدة العمومية، وفى رواية مدن الدخان سنجد الراوى يسترسل فى هذيان، ياخذنا إلى أزمنة وأمكنة غير معلومة إلى أن نجد عبارة تحدد المكان تحديدات قاطعة:"...قادته إلى أول قراءة لعتبات مدينة، أصبح طالب إحدى مدارسها فى الصباح، فشهد لأول يوم موت يمانى، يبيع سجائر للطلاب، بضربة واحدة من عصا، لرجل يتوكأ عليها. عرفه الناس عابرا، ينادى للصلاة بين شارعى البطحاء وحلة العبيد..." إنه حى قديم فى مدينة الرياض، وسيمر بنا الراوى فى الحى مرة فى الصباح أثناء ذهاب صابر إلى مدرسته، ومرة بعد عودته إلى بيته فيما أسماه بحى الغرباء الذى يغرق الراوى فى وصفه بقاطنيه وأغنامه وممنوعاته ولواطه وحادثة قتل رجل الدين لبائع السجائر لأنه يبيع السجائر، كل هذه المعلومات يقدمها الراوى للمروى عليه الذى يجهل كل شئ عن المكان مما استدعى أن يسترسل الراوى فى وصفه.

وتمضى الرواية في مدينة الرياض على مدى حوالى أربعة أو خمسة عقود، تتحول فيها العلاقات الاجتماعية والأشخاص، وتتغير الاشياء والمعايير والقيم، فالمكان لا يلبث على حاله، بل يصيبه التحول والتغير، ليس بفعل تحول المكان ذاته، ولكن بفعل التحولات الاقتصادية والإيديولوجية، وما يلحق بهما من مظاهر تحول مادى فى المكان، فيكون البطل هنا هو الناس والشخصيات، لأنهم من يقوم بالفعل، وليس المكان.
تحمل رواية "مدن الدخان" طابعها الخاص، فهى لا تشبه رواية أخرى، ولا تشبه نمطا روائيا نعرفه، بل هى رواية تشبه المدينة التى تجرى فيها الأحداث، فالشخصيات تربطها علاقات، ولكنها علاقات مبتورة، مثل هذه العلاقات بين أعضاء مجتمع "take away " كل شخص له هدف يريد تحقيقه، دون النظر إلى الآخر ورغباته وأهدافه، والمدينة تظهر ما تريد إظهاره، وتخفى الكثير تحت سطحها، تلتزم باللون الأسود واللون الأبيض، فى الظاهر، لكنها فى الباطن تخفى كل ألوان الطيف بين طياتها، التقاليد التزام شكلى، وكسر التقاليد والقوانين والأعراف هو الشغل الشاغل للجميع، الجميع منشغلون بصناعة الأقنعة، وحبكها على الوجوه، بينما أصبحت لعبة الأقنعة لا تنطلى على من ابتكرها، ومن ثم فالرواية لها ظاهر وباطن، والراوى الذى يعلن فى فاتحة الرواية عن موته، ويحاول أن يقلل من دهشتنا لأنه سيحكى لنا حكايته بعد أن مات، لا يلبث وأن يسقط قناعه الفانتازى المزيف، فلا توجد أى فانتازيا فى بقية الرواية مطلقا ..