منى الغامدي

جاء صابر من زمن بعيد إلى هذه الدنيا جاء قبل أن يخطفه جو هذه المدينة لتأخذه من حياه بسيطة .
تنتهي الرواية من حيث بدأت ، مشهد جثة صابر وبسمه تقوم بتشريحها ، تروعها اللقطات المحذوفة من حياته وتهتف لصابر في نومه ، أنا الضحية ، وضحية كل مسلوب الهوية مثلي ومثلك .. مازلت أقوم لأكون أنا " .


بهذا النمط الروائي الحديث يشرع الكاتب في رسم ملامح بأخته من شخصية صابر بطل رواية مدن المدن . تحتل هذه الملامح الصفحات الأولى من الرواية ثم تغيب بعد ذلك بين دهاليزها المعتمة وفي متاهات سير شخوصها المتنوعين وأحاديثهم الجانبية ، فهو قد " جاء من زمن بعيد إلى هذه الدنيا . جاء قبل أن يخطفه جوّ هذه المدينة ، لتأخذه من حياة بسيطة ، ملؤها مخبئات طازجة لغزلان جبلية متقافزة حرّة ، ترعى في الفيافي البعيدة ، لتعصف به رياح الحياة ، وترمي به في صحراء شاسعة , كطائر هدّه التعب " ص10 ، جاء من الريف ليكمل تعليمه في إحدى مدارس مدينة الرياض ويستقر به المطاف في بيت عزبة الغرباء بيت عم عارف الذي كان مأوى لشباب من أ‘مار مختلفة " طلاّباً ، وموظفين في مهن بدائيّة ومحدودة " أو عاطلين وعابرين إلى مدن أخرى " ، ويتوالى إعاشة وخدمه هؤلاء الغرباء ليوم واحد في الأسبوع .
لكنه في النهاية لم يكن سوى جثة تنتظر الدفن ، يفسح لها الكاتب مجال الحديث عن نفسها ثم يسلبها هذا الحق حين يترك المجال الأكبر للسارد وبقية الشخصيات . جثة رجل ميت وبدون هوية أو ملامح تميزه عن غيره عدا كونه مهملا ً محسوبا ً على هامش الحياة . حظه العاثر في الحياة يقف في طريق زواجه من بسمة الفتاة الوحيدة التي أحبها ، فلم يحظ بها وتزوج من فتاة أخرى ورضي بها ورضخ لكل ماتشيأ وشئ له دون اعتراض أو شكوى أو تسخط أو حتى محاولة صغيرة لتعديل مسار حياته ، وكان فوق ذلك عقيما ً بفعل السحر الذي لم يشأ أن يتعالج منه ، لم تؤثر فيه الأحداث والتحولات العقيمة التي واجهت عصره ومجتمعه وكل المحيطين به فبقي مخنوقاً بدخان المدن ، غير قادر على تجاوز حاجته إلى البقاء داخل نفسه ، في وسط لا يفهم دوره الحقيقي فيه ، كل شئ من حوله بلا معنى ، وأسئلة فضولية تنطلق دون إجابات ، يبقى معها حائرا ً ، وحاصرا ً بتلك اللقطات المحذوفة من حياته يحاول ملأها مستعينا ً بمخيلته الشاحبة ، وثقافته المحدودة ، فيعجز عن رتق تلك الفضاءات اللامتناهية . وكل حياته عبارة عن لقطات محذوفة تناسق مع عمله في رقابة اللقطات التلفزيونية .

تعدد الأبطال

بهذا القدر البسيط من حياة مبتسرة ، وجذور مجهولة ، ووحدة وغربة وإحباط ذريع " نجح الكاتب في تصويره إلى أبعد مدى " ، وإمعانا ً في تشخيص هذه الغربة بالأحاديث والحوارات الفرعية حول سير أشخاص لا تربطهم بالبطل صلات عميقة ، يفقد السرد مركزية الحدث ، فيتشتت القارئ وتضيع الحبكه ويتعدد الأبطال ، فلا يكتفي البطل الأساسي بهوية اجتماعية مسلوبة ، بل يضاف إلى ذلك هوية سردية مشتتة ورؤية غامضة ، تحجب عن القارئ جزءاً كبيرا ً من حياة صابر قبل مجيئه للرياض ، وجزءا ً أكبر من حياته بعد ذلك ، فلا نعرف إلا مايخبرنا به الكاتب عن أصدقائه ، ومعارف اصدقائه حتى ننسى شيئا ً كان اسمه صابر . فنلتقي بصديقه سامح الذي يحتل أجزاء كبيرة من السرد ، واصدقاء سامح : الفنان الموسيقي وشقيقته رمزيه التي ارتبط معها سامح بعلاقة عاطفية ، وزياد رفيقه في المكتب الذي بذل جهود للسفر إلى امريكا وأخفق ، والخال الذي يقضي جل وقته في السهرات ، وإلقاء النكات ، واتلاف المال . يتشعب السرد في وجهات متابينة لنلتقي بزوجة الخال الجديدة ، بنت خميس العجوز الذي تزوج برمزية عشيقة سامح ، ونجح في البقاء في القصر الكبير بمكره ودهائه
فيما أخفق الآخرون . وأخيرا ً " الفتى الجبلي " مجهول الأسم الذي لا نجد لسرد تفاصيل علاقته العاطفية بمصباح الأدبية أي مبرر إلا أنه زوج عزة شقيقة حفيد سويد الذي جاء من الجبال ليقيم في عزبة الغرباء ، مع ذلك يحظى هو وصديقته مصباح بمساحات شاسعة من الرواية ، يتجلى فيها سمو نفسه ورجاحة عقله وثقافته العالية ، وتتسامى هي في عقله وثقافته العالية ، وتتسامى هي في علاقتها به لتخاطب فيه مافقدته من أبوة وحنان .

الذات من خلال الآخرين

وتتوالى الأحداث الفرعية المتعلقة بأناس مختلفين ليس بينهم روابط ، وتترابط معا ً وتتعقد لتكشف للقارئ حجم شخصية مثل شخصية صابر المنطوية المنعزلة تلك التي سرعان ما تضيع وتذوب في مجتمع أكثر عزلة وغربة .
الموت هو قدره الذي شاء له الكاتب ، متخلصا ً من كل ما يحيل إلى تباشير حياة قد تولد في رحم رواية مفقود جزء كبير من نصها . وصابر لاشئ سوى ما يتشكل في أذهان الناس ووعيهم به ، وهو لا شئ سوى مابقي من أجزاء يسيرة هنا وهناك مما علق بالذاكرة الجمعية ، لأن السارد منذ البداية قرر ألا يحدثنا عن صابر ، بل عن شخصية أخرى غير صابر تتخلق من اللحظات المارقة حوله " كخيوط من نسيج يقود إلى رؤية ما نرى وما لا نريد " ص 9 .
يحاول الكاتب بهذه الفلسفة العميقة في تشكيلة رؤية الذات من خلال علاقتها بالآخرين أن يكون مفهوما ً إيجابيا ً لأستقلالية الذات واجتماعيتها في آن واحد ، إلا أن هذا المفهوم يأبى التكون في عالم يسلب الأنسان أبسط حقوقه ، فليس صابر سوى مانراه نحن لا مالا يراه هو عن نفسه . ولتأكيد هذا المنحنى يقوم السارد بوصف تأثير التغير الذي حدث لبسمة " حين كبرت وأصبحت استاذة جامعية " على سامح الذي صدم بهذا التغير الكبير وفكر كيف سيكون وقع هذا على صديقه صابر ، فبينما كان التأثير مباشرة على صابر عشيق بسمة الذي كان سيصدم بشدة ، وكأ، حياة صابر ليست حياته ، وإنما هي حياة المحيطين من حوله .

مدن الدخان

في مدن الدخان يسلب البطل هويته ، بفعل المدن الجديدة وظغوطها الأجتماعية ، وفوضى الحياة الصاخبة ، وإيقاعها المتسارع ، بفعل الحروب ، والأنكسارات المتوالية . كل ذلك كفيل بضياع تفاصيل كثيرة من سيرة صابر : " صوت الغناء الممتد إلى الخاصرة ، ذات الصوت الملتاع ، يرشق الجبال كل مساء ، وقد تحولت بوصلة السفر والغايات ، تجاه مدن جديدة ملوثة ، يحترق فيها صوت العشق والعشاق . المدن الكبيرة كالنساء المسنات تخفي التجاعيد ، تفاصيل تصبح أسيرة تابوت الظلام " . ص 59
مدن الدخان هي مدن تنمو فيها الأفكار الجوفاء ، والأنبهارات الزائفة ، فقد " كان الفتى على حق في بداية مجيئه ، وطوافه الدائم مدن الدخان ، كان على حق يرفض أن تبهره ، أفكار سامح التنظيمية السرية وتجذبه ، فلا يجدها إلا جوفاء من الداخل ، وأكثر جفافاً وبؤساً من الواقع " . ص 107 .
هي مدن الأحلام والطموحات المحترقة ، والدخان الكثيف الذي يفسد حكايات الحب والأمل ، وهذا مايفسر لنا سبب بقاء صابر الوحيد الذي لم يتغير ، فلم يتأثر بالأحداث ولم تؤثر فيه : " كل ماكان حوله ، واقعا ً صابر يدفعه بين يديه كل يوم " ص 227 .
وهو الوحيد الذي ظل محاصرا ً بعزبة الغرباء ، لم يستطع التخلص من ماضيه الذي ظل متشبثا ًبه إلى حين موته .
تنتهي الرواية من حيث بدأت : مشهد جثة صابر وبسمة تقوم بتشريحها ، تروعها اللقطات المحذوفة من حياته . التقت بجسده فقط ، بينما ضاعت روحه قبل ذلك بكثير ، غاب في ثنايا الآخرين وبين أعطاف ذكرياتهم وسيرتهم الذاتية .