د . علي الرباعــــي

أثارت رواية «مدن الدخان» استفهام بعض المتابعين للكتابة الإبداعية عن سر التسمية، ومدى تعمد الروائي أحمد الدويحي اجتراح عنوان كهذا، يرتبط في ذهن القارئ بـ «مدن الملح» لعبدالرحمن منيف. ولا أبالغ إن قلت إن التلازم بين العملين «مدن الملح» و «مدن الدخان» أوضح من أن يخفى على معنيٍ بالسرد ومنجزاته، بل إنني أرى بينهما اتصالاً روحياً وفلسفياً، أسهم فيه توحد منطلقات الكاتبين، وتماهي هميهما حد التطابق ، وهو تلازم تفرضه ذات مغتربة وطامحة إلى منح نفسها مرفأً آمناً، من خلال ملامسة هموم الرفاق والمعارف والأصدقاء، ورصد نشيج صدورهم، وتعرية جراحهم للشمس، تفادياً لتآكلهم من دواخلهم بعيداً عن أعين المنقذين.

ولست بمتفق مع الرأي القائل بأن الراوي يصنع من شخصياته أبطالاً خارقين للعادة، يخلدون في ذاكرة الأجيال، إذ كثيراً ما تحول البطل الظاهر إلى ضحية في الباطن، فالسارد بقدر تضامنه مع الشخصية واستجلائه مضامينها ورؤاها، بقدر ما يتسلّى بهمومها، ويشرّح معاناتها، ويمد معها جسوراً يقيمها متى شاء، ويهدمها وقتما أراد. وباستعادة أجواء وفضاءات «مدن الملح»، نجد أنها رواية تقوم على فكرة التحولات السياسية والصراعات الإقليمية، وما صاحبهما من تداعيات لها بدؤها وليس من سبيل لإدراك منتهاها، مع التسليم «بالأدلجة» الفكرية التي يعمد منيف إليها في كل عمل من أعماله، و «مدن الدخان» ترصد تحولات مجتمعات قروية، وهجرات بعيدة عن المدينة وفضاءاتها، سكن أهلها الهامش وبلغ صداهم المتن، محتلاً له في كل سانحة.

إن الدويحي «المشاكل» لمنيف عروبة وأنسنة، ليس بدعاً من الكتاب حينما يسطر حزمة من متاعب أصدقاء مثقفين ومثقفات، ثم يعيد صياغتها برؤية خاصة، ليقدمهم من خلال مخطط مدن من دخان تُرى ولا تُحس، بانياً حولهم سياجاً من سلطة وهمية تتلمس حاجياتهم وتوازن بين تطلعاتهم، وتختار لهم آلية صراع فكري وفلسفي وعبثي، لتتحول القرى إلى مدن تعج بالجدل والبحث عن الذات، والنقد للواقع المرير النائل من كل شخصية بحسب قدرته وضعفها.
يحدد المدخل في «مدن الدويحي» مسار الرواية المتراوح بين النجاة والتهلكة، والمسكون بهواجس الموت والغياب والرحيل المر «غادرت وجثة صابر تنتظر الدفن»، مسجلاً هنا ملامح تصف حال كاتب ممتلئ بالرحيل، ومتعب بحمل الجثث، منتقياً تسمية «صابر» للتخفيف من ألمه، علماً بأنه لم يعد منسجماً مع الصبر بعد أن فاض كيله، بجمع نيران محرقة لم تضئ وإنما أظلمت بدخانها، وغادر السارد كما ينفذ هواء من عنق زجاجة غازية فتحت عقب خضها، مؤملاً أن يحل طائر أسطوري محله، ويعفيه من وزر جريمة حمل إثمها ولم يقترفها، ليرحل دونما التفات لما يمكن أن يهيمن على جثة تتآكل أو تتعفن أو تدفن.

لقد حاول صابر بكل ما أوتي من قوى نفذ معظمها، أن يمثل دور المنقذ لغرقى يتدافعون نحو حتفهم، إلا أنه شعر بالتورط حين رآهم ينجون من الموت، وهو يتردى صحياً، ويعتل طبياً، ويحتل أَسرَّة المستشفيات لتفادي أزمات تحيق به، وتوهن من عزمه، وتزفه للقبر أو تدنيه منه، كلما أبدى تفاعلاً مع جراح يحمل في ذاته ما هو أعظم منها، ولن يخفى على جملة ممن وردوا في ثنايا الرواية أن زمن الرواية وطقوسها تتماهى مع زمنهم، ما يعني آنيتها، وأماكنهم تتشابه مع القرى والمدن التي سكنوها، لتنفرد المضامين بنفسها وتنأى عنهم، لتتسع وتضم تحت لوائها مشتركاً إنسانياً لا حدود ولا قيود على أبعاده، وهذه لعبة السرد التي يتقنها الدويحي في (تكويم) العام والخاص، ثم بعثرتهما ليتعذر فصلهما عن بعضهما، ويصعب التفريق بينهما. إن «مدن الدخان» تتربص بالمقيمين والظاعنين، عازمة على النيل من الجميع وتوريطهم في بؤر التوترات، وأعماق المحاور الساخنة والزاخرة بانعكاسات وتحولات صادمة ومتسارعة ومتضادة، عبر نمو المنجز المعرفي للإنسان وتداخل البيئات المحيطة به، مروراً بهضم الحقوق، وتطاول الذكر على الأنثى، والمساس بالقيم النبيلة، ووأد معاني الإنسانية، وإحباط كل الجهود القاصدة نحو الخير والعدل والسلام.

ويشير الراوي إلى أزمة معاصرة يستشعرها كثيرون من المبدعين «يا ساتر.. الشوارع مختنقة، وفي كل شارع نقطة تفتيش »، ولمصطلح الاختناق دلالاته العميقة المخترقة ذات مبدع لا يعنيه ضيق الشوارع، ولا يهمه زحام المركبات، بقدر ما هي ذاته المتعبة، والمتخمة بتأثيرات ما يرى ويسمع مما لا يسر، ليضيق صدره ولا ينطلق لسانه بأكثر من «الشوارع مختنقة ».

ولا يغفل الدويحي دور القارئ الناقد الحصيف، بل يمنحه متسعاً من الفرص والمساحة ليمارس قراءته التحليلية والاجتماعية والسياسية، مع حفظ الحق في التأويل المحرض لفتح آفاق جديدة أو متجددة، واحتمالات مفتوحة ربما لم ترد في ذهن السارد وقت كتابة العمل.
وبقدر تعلُّق الراوي بفريق العمل وعنايته بهم، إلا أنه تحاشى لعبة التقمص، وتجنب إضفاء هالة على أبطاله أو منحهم أدواراً أكبر مما هم مؤهلون له، فالأبطال في العمل يتناوبون الفاعلية والوهمية، يسخر منهم بقدر سخريتهم منه، ويخلط بين واقع يعيشونه ويعايشونه، و «فانتازيا» لا وجود لها إلا في ذهنه، سوى ما ذكره عن زيارة سجين حين كان يذرع شوارع الرياض في نهاية شهر رمضان، مستعرضاً أسماء شخصيات حقيقية معرفاً بها وبدورها وبالظروف (الزماكانية) المحيطة بها.

ومع تسليمي بتصنيف «مدن الدخان» ضمن منظومة السرد الواقعي، إلا أني بما عرفته عن الدويحي إنساناً ومبدعاً عصياً على التصنيف، أزعم أنه في أعماله السابقة كتب السريالية بذهنية واقعي، فيما كتب «مدن الدخان» بصياغة واقعية وذهنية فيها الكثير من السريالية والفلسفية والتحليلية، رغبة في التعريف بكل شخصية ومستوى وعيها، وإبراز مكامن الإبداع والخلل فيها، ليندمج الراوي (الدويحي) مع الشخصيات في سخونة الأحداث، ليلتبس الأمر على الراصد، ويعجز مع سخونة الأحداث عن تفكيك المشهد الحالم/الواقعي/الخيالي، ويتحقق الانفصال بين الكاتب وما كتب، وبين الأبطال والبطولة، كانفصال الدخان عن النار وتسربه من عنق مدخنة.