مقاطع من رواية : الدنيا الجميلة
- 1 –

البياض الأول في حكايته ، أسمه الشمالي ( ندى ) ، ودودا وخشنا في آن ..  
ليس مهما كيف مات ندى ، فمصيره المحتوم ، لابد أن يكون الموت ، مع أني إلى هذه اللحظة ،

لا أعـرف كيف مـات ندى ..؟
الذي أعرفه ، أني عرفته في مرحلة مهمة ، وفي مكان مهم ، وبين أهم أصدقائي الكناسين ،

وهم الذين لابد أن تعرفونهم ..! ( ندى ) يمثل الآن الكثير منهم ، قلت لأنه مضى ، فلابد أن يكون موته ، فاصلا بين الأجيال ، فاصلا بين الهوايات ، الرغبات ، الصدق ، والحياة ..
الزمن المقدس ، المكان الممتد بنا في ذاكرة الناس ، متشحين بالخوف من مصير الحروب والكـلام ، وبصوت الشاعر الذي لا غيره ، المد الذي نعبر به تلك اللحظات ، فكلنا نشكل ترنيمة  وصوتا نشازا  أبيضا ، وجوقة عسكرية في نشيد مدهشا ، مات من مات ، وبقي من بقي

، دفقه هائلة من الزمن المر ، وحدت بيننا من كل فوج ، جئنا فرادى وجماعات ،  تدفعنا رغبات مبهمة  لا يحسمها الشعر والظرف ، بقي من يتاجر بمن مات ، أضحك الآن في داخلي ، إذ أرقب بعد ذلك تلك الأصوات ذاتها ، وقد لونها الزمن ، جذر أعوج التجربة ، إذ أضاف

شاعري البارحة ، ساخطا على غير المعتاد  :
- بقي الصوت النقي ، كنت أعرف هذه الأصناف جيدا ،لم أقع مثلك في شر تصنيفاتهم ، ولم أخدع بهم ..
لم يصبح ( ندى ) ، أسطورة الكلام بين يوم وليلة ، وصوتا شعريا متفردا يبتز الصمت ، حينما تثر زوابع الكلام والصراخ ، محتجة ومنفعلة ومؤيدة ، يأتي ( ندى ) وبين يديه شيء ، يجده ليقدمه للأصحاب ، ملئ بهم هذا الفضاء ..
بكيت حالة مـوت أصدقاء رحلوا ، أكثر مما بكيت وحزنت لهم أحياء  ، هم الذين امتلأ الفـضاء بأصـواتهم ، وظل ( ندى ) بلا صوت ، صمته كلام فعلي وحقيقي ، لم يجرؤ أحدا من الشعراء على تجاوزه ، وابتزاز حضوره البهي في عتمة الليل ، عاش كأسطورة ومضى ،

ليضيء عالم لم يزعم أحدا منهم   أنه يضيئه ، كلما أحتشد جسده الضئيل ، ليظل مفردة جديدة  ، تتفتح شجاعة وتهورا ، ويدور الهمس :
- صف لي اللحظة تلك ، تشهر سلاحك في وجهه ..!
سألته ، وظننت أني بسؤالي  الصغير ذلك ، قد أستطيع به فتح كوة في جدار ، أضاءتها حكاية ملتهبة في ذاكرة ندى ، ربما بالغ الأصحاب الكناسين بعد ما وحدتنا العتمة ، وسكن  بيننا خوفنا المشترك ، الآتي من مسافات بعيدة ، وطال قلب مدينتنا ، كحالات تتوزع بين أفواج

من البشر ..
نظر في وجهي ، يختبر جدية سؤالي ، ومدى الصدق والريبة في مسافات متعاكسة ، ومضت أيام صارت خزينة ثقة بيننا ، وتفرد حالات ترقب ، وإيماءات ، وضحك ، وصمت ، وبذل النفس في غير أوانها ، لم أشعر منه بحالة إدعاء وتميز ، متمرسا في فعل ما يريد بحرية ،

وبدون تردد إذا شعر بضرورته ، لم أحب يوما في حياتي  مغامراً  ، في الصمت والفعل ، مثل ما أحببت ندى ، عرفت فيه إذا فعل ، فإنما يفعل ما يريد ، بأشد حالة من الصمت والسرية ، يفسر الكلام في حساسية شديدة ، رد إلى سؤالي ضاحكا :
-    بالله العظيم ، لو كنت مكاني ، أنك لتسوي نفس الشيء .. !
لم أشبه ندى في شيء أبدا ،  قناص فرص ، وحياة نادرة ،  في لحظة تجلي ، وفي زمن ليلي ، وفي لحظات الحرب التي تبعت ، سنوات سموها في ما بعد ، بأنها حرب الخليج الثانية  ، خرجت مع ندى إلى الحي الشرقي ، أريد ما أريد ، ويريد ندى إيصال علاج إلى حبيبته ،

وقد جعلني دون أن أحسب ، أعيش معه في مغامرة ، ظننتها في بادئ الأمر صغيرة ، الناس في أول ليال شهر رمضان ، صلاة تراويح ، وندي يحقق دائما ما يريد ، إذ علي أن أمضي في ظله ، معا إلى ما أريد كذلك أنا ..
وجوه جاءت إلى مدينتنا هاربة ، حققت لي في أول الطريق ما أريد ، وزنجية فتحت لندى باب في شارع مظلم ، وناولته دواء لحبيبته ، الدواء الذي لم يخف من روحي الخوف ، أسئلة حادة تشبه صمت ندى في ليال  ، أصبحت بيننا سنوات ..
وإذ لم أستطع كبت أسئلتي ، ألتفت لي ندي بهدوء  :
-     البنت جربت أكثر من طريقة ، لتتخلص من الورطة ..ما نفعت مع أسفي ..!
-     دع هذا في الأخير ..!؟
وأضفت ، وقد فتح لي ندى النافذة ، إذ أصبح في قفص الحب ، وعلي أن أفتح معه ، نافذة الكلام  :
-    هذه قضيتك تخطف أبنك من بطن أمه .. بس أكمل لي لو سمحت ، حكاية الرجل الذي خطفته بالقوة ..؟!
وغمزت بسخرية ، أضفت قائلا:
-    على ضالة حجمك ، تشهر السلاح في وجهه ..؟
أرتد في مقعد السيارة ، وكأن كلماتي ، مست صمته الأبدي ، وبحذر سألني :
-    الخبيث الذي قال لك .. ؟ ، أنا قال لي أن أخي ، جاء معه إليك ، قبل ما رأيتك أول أمس   وعرفت ما صار ..والحقيقة أني أكبرت ، كسر حالات جنونه ، ويوم أني أمر عليك اليوم ، أعرف أن أول شي يجب فعله ، هو أن نحل هذه المشكلة .. !
- يا أخي لا تأخذني في دروب وشوارع مظلمة .. أنت في صغرك ، تدخن لتثبت لحبيبتك أنك رجل نضجت في حضور الكبار ،  وربما معك ( سبيل ) ، تدهن بزيته شاربيك ، المسدس ، وتهريب أسطوانة الغاز ، أولي مغامرتك .. الليلة أريد ما أريد ، أنت للمتشحة بالسواد

، في قصة حب خادعة الليلة ، تنتظر الخلاص من الرجل ذي اللحية الممشوطة ، ورحت خلف أبواب ، محاطة بحكايات أخرى ، غريبة ،  وعجيبة 0 تنتظر الموت ..                             
-    أنت راعي طويلة .. أسمع ، الكلام اللي أقوله ، خله في سرك .. يوم أن تكون في مكان وتجد أنك  تستطيع أن تجد ذاتك ، فلابد أن تكون أنت في لحظة ، الأمور جاءت بدون ترتيب ، وجدت الرجل في وجهي ، وشيء من علامات مهابة  ، تظهر علي

وجه ، وتعرف أن لهؤلاء الناس خصوصية  في دول الخليج  ، قلت معرفة الرجال تجارة ، الرجل صار يعرف موعد دوام الميناء  ، وصار يبتليني كل يوم ، ويوم صارت الخيانة منه في دمه ،  أخرجته من بيته في بلده ، وخليته يدفع لي حقي  ، الحكاية طويلة  وفيه سيرة

ناس ، ويعلم الله لقد توسطت عند أمه في أول الآمر ، لعله إذا ما عنده شيء ، ليسدد لي حقي في الحال ، لكنه رفض يكتب لي سند بذلك ..!  
وكنت قد وصلت لغايتي ، فدخلت إلى مسجد في الحي الشرقي ، ومضى ندى إلى مصير مكان  تضيئه الليلة حبيبة ، لست أعرف ما إذا كنت في عرس ومحبة ، أم جريمة الخلاص من السفاح الصغير ،  الله الذي يعلم مصيره ، فلن أعرف  بعد هذه اللحظة

شيء عنه ، والحقيقة أني هربت إلى المسجد ، بعد ما قذف ندى لحبيبته بكيس دواء ، فوقع في يد بعض ناس ، تخلفوا عن صلاة التراويح ، وظللت في المسجد ، كأني أنتظر ليلة القدر ..؟
في المسجد الذي يقع في ساحة مواجهة ، لبيت حبيبة صديقي الشمالي ندي ، شهدت لحظة رأيت فيها الناس ، يتجمعون حوله فخرجت هاربا ، فقد جعلني أنتظره  ، ليوصل دواء حبيبته ويعود ، فقبضوا عليه في لحظة ، وهربت في لحظة أخرى ، لم أشهد فيها خلاصه ، وفي

طريقي لا زلت هاربا من المسجد ، تتساقط مني أسراري ، وصوري السرية على قارعة الطريق  فربما كانت الصور ، هي الشاهد الوحيد على براءة ، كنت قد زعمت بها ، قررت ومضيت إلى النهاية ..0

- 2 –

الليلة الأولى لي هاربا ، وسعت الحياة مذ أحطت روحي بتلابيب المسجد ، وقد مرت أيام عدة ، قضيتها من شهر الغفران ، قلت في نفسي ، لابد أن أبحث لي في بيوت أصدقائي الكناسين  أبيت بعد قليل في بيت أحدهم ، أنتظر ليلة القدر ، وعلى كل حال ، ما سأقوم به تلقائيا ،

يعني سيظل يومي موزعاَ بين ساعات عمل ، وأخرى أكثر منها في  النوم ، وفي الليل أمامي بعد صلاة المغرب ، والإفطار رحلتي الليلية في أربعة بيوت ، أنتظر في أحدها ليلة القدر..                                   


في هذه البيوت طقوس وصفات ، تجبرني الانسياق إليها ، أكثر مما في الشخوص من مزايا ، قد تتغير الأمكنة ، دون أن تغير احتياجاتي من المكان والناس ، فأصدقائي الكناسين ليليين ، يخرجون في ليل شهر الغفران ، وهم الآن وقود روحي ، وتنوع

بهجتها ونافذتها الوحيدة ، أنتظر دعوة بعضهم ، وأغشى أمسيات البعض عنوة ، أجد لذتي أحيانا ، وأخرج مكتئبا في ليال أخرى ، جربت أ ن أظل حبيساَ طيلة شهر الغفران وعجزت ، فتركت لنفسي سجيتها وهواءها ، أطل إلى عالمي ( المكتوب) ،  دون أن تأخذني العبرات

إذا بقيت وحدي ، أشعر بضياع صوتي ، وتهيج في الأخرى ، أشياء غامضة في نفسي ، أتذكر في طفولتي أن أمي ، تُسمي علي أحيانا ، ثم  تصاب بخوف شديد ، ويتغير لون وجها ، إذ غامرت مرة ، بعد أن عاودتني تلك الحالة ، وأبلغتني :
-    في طفولتك المبكرة ، تحزنني إذ كنت تبكي طويلا ، ثم تدخل في غشوه الغيبوبة ، وتقطع قلبي ، وتأخذ عقلي عليك ..!
أحيانا أسائل نفسي ، إذا اشتدت علي الحالة ، وصرت وحدي :
-    هل الإنسان في صرخة واحدة ، ممتدة في كل حياته ..؟
قدرت أن كل شيء ، يتسرب بتغير الزمن ، الطفل الذي كان لم يعد ، ومثله تغير الصوت والجسد والإدراك والطاقة  ، وتتغير الصدقات والاستنتاجات والأفعال والوظائف ، عواصف رحلة طويلة إلى ما لا نهاية ..  
ضمنت أن الخيار الأفضل لي ، مادمت قد قررت المغامرة ، أن تتولد خيارات جديدة ، لم تكن في أجنده رحلتي الليلية ، سيتيسر لي الاطلاع على تفاصيل ، حياة تماثيل في حصونها ، وداخل قلاعها وكهوفها الطبيعية ،  تتحول إلى أشباح فنية سياسية ،

ويتغير مذاق طعامها والعاب فرسانها ..
قبل أذان المغرب ، وقبل صوت مدفع الإفطار ، أقف في اليوم الأول لي ، في مواجهة باب بيت ، أول أصدقائي الليليين  ،  وتمر بذاكرتي صور متدفقة لدقائق ، رأيتها قبل ليال في ذات المكان ، وبدء فعلي لرحلة يومية ، لم تحسم بعد وما زالت حية ، وقفت

مع هذا الصديق ، أودع أصدقاء كثر ، في رحلة ضياع لن تنسى ، وأهم ما في هذه الوقفة  مغامرتي الأولى ، إذ أقدمت في لحظة جنونية ، وبي خفقه من الحزن ممزوج بيأس شديد ، إذ غامرت ومزقت صور ، تظهر فيها ( زرقاء اليمامة ..) القديمة ، تلعب مع أصدقائي الجدد

، ودعتهم تلك الليلة ، ولابد الآن أن أواجهه هذا الواقع الجديد ، وأولهم رجل سيكون بيته أول مغارة ، يكون فيها ملاذي ، وحصني البكر ..
أخلع عن روحي همومها ، أعطي نفسي سجيتها ، أدخل إلي ليلي الجميل ، وقد أودعت خارج أبواب بيوت ماض فاض أوانه ، أتعرى بالواقع الجديد ، أشياء لا أستطع نسيانها وإيقاعها المذهل ، أمضي إلي حصني البكر مطمئنا ،  يعش في هذا الحصن راوي ومصباح ، أبطال

قصة حب ( هندية ) ، شكلوها في طقس  صحراوي ، وقد أودعا في مدينة ( دلهي ) ماض ، رأيته ذات مرة مع راوي ، فقد شاهد لحظة تمزيق صور ( زرقاء اليمامة ..) القديمة ، وبقيت في ذهنه إلى أن اختلى بي ، فدفعه الكلام بيننا شوقا إلى إخراج صور عرس هندي ،

وصور بيته وأهله وأولاده الخمسة ، لا تبدو فيه مصباح مطلقا في أي صورة ، ولا تنم عن حالة سيئة ، مسألة وحيدة ، تحاول فيها تقنعني مصباح ، أنها السبب بما كانت ترسله  من مال ، نظير غربتها السابقة  وكناسة ، تعمل خادمة في الكويت..
أمضي أوقاتي ، أسلي نفسي في غياب سيد حصني الأول وصاحبه ، وأزجيه بري الأزهار والشجر أنا وراوي ، لحظات قليلة نتكلم فيها ، يشاركنا سيد الدار الكلام ، إذا حضر والري أحيانا  فقد رضي بشرائي له ، شجرة ملكة الليل وزرعها في داره ، وبين أزهاره لتطيب

مسائي ، فلا زال يحب الأزهار على عهده القديم ، وحجتي أن هذا الفصل البارد ، يعد خير الفصول لحياة ملكة الليل ، ولضمان تشكلها ونموها الطبيعي ، خصوصا نحن في ليال القرآن ، ننتظر ليلة القدر ، لم يعبأ بي ، ظل يغب كما تغيب كثيرا رائحة مصباح ، المرأة الوحيدة

في هذه الدار ، تشغل نفسها أكثر لدرجة القرف ، في خدمة سـيد الدار ، وصاحـب حصني البكر في غيابه ، وحضوره دون أدنى تذمر من راوي  ، فقد توقفت خدمته بدوره  ، توصيل الأطفال إلى المدارس ، بحلول إجازة شهر الغفران ..
نسيت كل شيء في الخارج ، ليس لي صلة بما خارج هذا الفضاء ، سلخت ذاكرتي صور كثيرة ، لا أريد استعادتها ولا أقمعها أيضا ، أسجل لقطات لم تصور ، كتلك التي مزقتها قبل ليال ، وحزنت عليها حزن غير قليل ، ومنها لقطة نادرة في طفولتي

المبكرة ، نقشت فيها أسمي الحقيقي في وجه صخر ، داخل أحد الكهوف البعيدة ، واخترت حصني الأول ليكون فضائي  حصني البكر من بين حصوني الأربعة القادمة ، لمزايا في الشخوص وفي المكان المكونة هذا الفضاء ..          
حرية الحياة في فضاء الحصن البكر ، أولى مغريات ومزايا المكان ، فمنذ فقد طيبة الذكر ( زرقاء اليمامة ..) ،  نظرتي للمرأة طبعت بشيء من الحساسية ، وفي هذه الدار لا توجد امرأة ، مصباح ليست امرأة في نظري ، شكي أن راوي زوجها أصبح كبير ، صارحت مرة

سيد الدار بذلك ، نظر متمعناَ في وجهي  ، وبدون مبالاة ، قال :
- في ستين داهية ..!     
أخذ راحتي في داره إلى النهاية ، وصارت كل غرفة في بيته ، حصن لي حصين مستقل وبالذات مكتبة بيته ، و ظل ( زرقاء اليمامة  ) ذاتها ، حامت بي مرة كما في مرات ، يعرفها هو بالذات ..
إذ كنت خلف مكتبه ، وتخيلت ظلها يطوف بي ، خفت مصارحته وقتها ، إذا لم تقوى صلتي بالمكان والشخوص ، وخشية على أولى صوري الغير مؤكدة بعد ، وتأويل أسئلة تتقمص دور المشكك ، ولم أجرؤ على الالتفات ، والكلام..
بناء جسور محبة جديدة ، أمر شاق وصعب ، وسيد حصني البكر ، ذو معرفة وثيقة بحالي وحالاتي ، وذي ميزة ليست ضئيلة ، إذ يمتد في حالة حضوره بيننا حوارات ، ونتبادل الجدل الموضوعي بكل واقعية ، وسيد حصني البكر ، صاحب حساسية مرهفة ، ذكي قليل الكلام

لا يخفي وده ، وشغفه بحياة مع امرأة ، تكون نصفه الحقيقي ، بالوجه الذي يريده ، مرات أغني له ، فيطرب معي بطبعه ، ويغني بصوت جميل :
(  الله ..
الله منك ..
يا عسل صافي..
قوت العاشقين  )
المدهش أن عشق الأزهار والنساء والشعر ، لم تتحقق لصاحبي كامل مفرداتها ، فاجتهد ليحسن بقدرة مدهشة يحسد عليها ، وصبر يقف على متن الحياة ليصنع له فضاء ، يغري بأن صار مأوي وحصني المتين ، ومنه نوافذ ذات ضوء ، مزيج من المحبة وإغراء ، يخرج بي

إلى الميادين الأخرى ..       

- 3 –

الزحام في نهاية الشهر ، يكاد يحتفي بنا الليلة ، لتظن أن المدينة هجرها سكانها في النهار ، ما يلبثوا أن يخرجوا في الليل ، يزحفون كأنهم النمل ، داخل بطون سيارتهم الفارهة ، وسدوا منافذ مدينة يقف في مداخلها رجال أمن ، تذكرت في الطريق إلى حصني الثاني ، أن في

حضني حكاية شاب عشت دقائقه المرتجفة ، إذ كنت في سبيلي ذات مساء ، رخو بحذر يشبه مسائي ، فوجدته يشير لي بين عشرات شباب ، يخرجون بكثافة من ملعب كرة فرادى وجماعات  ولست ادري السبب الذي يغري ، ليكون رفيق دربي في هذه اللحظات ، قلب ساعة

يده وبلعها داخل فمه في لحظة ، بهدوء بعد أن وضعته للحظات ، في حالة من الحيرة والغضب ، قلت :
-    هات حكايتك بسرعة ..؟
كذب علي وبلعت كذبته ، قبل أن أكتشف في النهاية ، أن الشاب النحيل رفيق الدرب ، له خيال شارد ، وقد ورطني في حباله ، كما تورط في قصة حب مزعومة ، رضيت فيها شهر زاد  بضياعه ، هائما على وجه في الشوارع ، حكاية ربما يعيد سردها عشرات الشباب ،

بتفاصيل صغيرة في نهايتها ، ينكسر قلب البطل ، وتطير ( شهر زاد ) إلى عشها الموعود ، ولبطلي الشاب المنكوب ، بقصة حب لم تنته بعد ، في نهاية طريق ربط خيطه بيننا ، مسار مساء ممطر  قلت له مودعا بتصنع :
-    لقد أحببتك ..لو تعطيني رقم تلفون ، أجدك عليه إذا أردتك ..؟
إذ سبقني ، وكتب على ورقة صغيرة ، وأخفى رقما ودسها في يدي ، وفي الأخرى نفحة قبضت عليها ، بزعم أنها من رائحة حب ( شهر زاد ) ومضى ، اختفى في نهاية الشارع المظلم في الحي الشرقي ، وأخذت سبيلي إلي حصني الثاني ، في ذات الحي وفي وجهي ، بدأت

أولى ملامح سقوط ينتظرني ، كليلة قدر أنتظرها ككل مسلم ، في كل شهر غفران لكل موسم ، وعلي تحضير ذاتي وتطهيرها ، أفعل هذا بشكل تلقائي في كل فضاء ، في حصني البكر لم أكن أصارح سيد الدار بهواجسي ، صمته الرهيب حوار في غاية الرشاقة ، بنبل يكتشف

الأشياء ، ويجيد توصيل ما يريد ببراعة ، نختصر معا المسافات ، والحدود بدون حذر ، أحوج ما أكون الآن إلى ترويض روحي ، فقد خرجت على حدود لحظة لم تكن محسوبة ، وبدأت صورة السقوط تتكشف لي ، مذ خدعني بطلي الشاب ، ورفيق الدرب الضائع مثلي ،

وكتب لي بخدعة ستة أرقام ، لا تكفي للوصول إليه متى أردت ، ولا لرائحة ( شهر زاد ) ولو لليلة واحدة ..    
لم تنته هواجسي بوصولي إلى باب حصني الثاني ، ارتفع صوت مؤذن لصلاة المغرب ، وحان وقت الدخول إلى حصني والإفطار مع أهله ، فكرت في الفطور مع الهنود والباكستانية في المسجد ، وكانوا عشرات يتقاطرون على باب المسجد ، ثم آتي إلى حصني ليكون الأمر

طبيعيا ، لقضاء المساء بعد صلاة التراويح في اللعب والكلام ، فلم أستطب الفكرة لغرابة وجودي في المسجد ، لأكل من صدقات المحسنين ، أتنافس مع هذه الفئة من البشر..    
وجهي قضمه أولاد سيد حصني الثاني السبعة ، على مائدة إفطارهم وسط ترحيب أبيهم وضحكه ، الليلة لها جذور بعيدة ، سيد حصني الثاني لم يأت عبث اختيار بيته ، فراسة خطيرة وأسئلة ذات شفافية ، لن تمنعه ليقف على السر الخطير ، وسبب زيارتي له المبكرة ..!
وإذ استطعت تفادي مواجهة مباشرة ، شرعت في الفضاء الممزوج بلفحه صاخبة ، وأردت استفزازه  ، ومددت له كتاب ، وفي داخله صور ( محرمة ) ، لتتكشف بيننا في لحظة باسمة وحذرة ، مواطئ سنوات بعيدة وغريبة ، وإذ أيقنت أن صاحبي وسيد حصني في ذات

اللحظة ، قلت له بهدوء :
-    أنت تعرف أنها سرية ، لم أجد مكانا أكثر أمانا لها من حضنك الدافئ ..!
بعد صلاة التراويح كل ليلة ، يأتي أصدقاء سيد حصني الثاني ، وجوه أعرفها حق المعرفة ، أقرها في صمتي وصخبها في المكسب والخسارة ، ينتظرون معا ليلة القدر ، دون مغامرة زائدة في اللعب والكلام ، يختلفون حول الفوز والنصر والورق ، ويظل الباسم وحده دائما  

يصطاد غيومه البعيدة كل ليلة ، ليلعب في مواجهة سيد حصني ، لتكون حكايته مع شهر زاد  ، هي الشعلة المعبأة كل ليلة ، يخرج الصور لنبدأ الكلام حولها ، إذا خرجوا وبقينا وحيدين ، وما أن تبدأ الحكاية الليلية المعتادة في التلاشي  ،  لتحل مكانها حكاية الشعلة ( شهر زاد

) ، تسرح عيني في تفاصيل الصور ، فيأتي  صوته ساخرا ضاحكا :
- يا رجل ما عليك منه .. هذا ما يعرف أبوه .. عمه الدولار ..!                  
تصبح لذتي في مشاهدة الصور مضاعفة ، فيقول دون وشاية :
-    عرف كيف يستفيد ، دخل في الناس وأخذ حقه من أراضي ، ذهبت للي يستحق واللي ما يستحق ، يقولون يرتشي ويقول باع وأشترى ، ما عليك اليوم في كل شارع له بناية ، الطفرة مرت رجل ما يقول يا ليت.. !
تضحك ( عبير ) في الصورة بذهول ، ورأسها يخفي كثير من ملامح وجهي ، فيبدو الخوف ممزوجا بحيرة لا تضاهى ، فيضيف :
-    من زمان أيام ( عزبة الأيتام ) ، جوار مقبرة العود ، الأحلام وقصص الحب واللعب في الليل  وفي نهاية الأسبوع ندور وجبة حاشى ، في عرس و ( زار ) دواسر.. ورفيقك يشتري البيوت القديمة ..
نظر سيد حصني الثاني في وجهي ، وقد أصبحت حدود حريتي ، لا تتجاوز حمام ملاصق غرفة صغيرة ، أقضي وقتي في الأيام التالية في تهيئة الموقد ، بصحبة الأولاد مبكرا من العصر  ليكون جاهزا من ناره ، زادا لرأس شيشة الباسم ( الشعلة ) ، والوقت قبل حضورهم

والشهر في منتصفه ، والبدر باسما حاضرا رأيت وجهي ، وقلت مؤاسيا سيد حصني :
-    الحرية تقتل ، كالنظام إذا لم تحسن تعاطيه  ..
وحينما خشيت أن يفهمني خطأ ، بسبب القيود التي فرضها علي في داخل حصني الثاني ، وبيت النية على مغامرتي التالية ، للخروج من حصن أمضيت فيه ، شطر كبير من شهر الغفران سجنت فيه هواجسي وخوفي في غرفة ضيقة ، بنار الموقد أتسلى وفي الليل أنتظر ليلة

القدر ، وتنتظر وجوه مساء سيد حصني ، النصر والفوز أو الخسارة في لعبة الورق ، حان الرحيل ولم يبدو أني ، قد رتبت الخطوة القادمة ، واصلت الكلام معتذرا  :
-    أنت تعرف .. والأيام بيننا صداقة وقرابة ، ما يحتاج زيادة ..
في الشارع دون الجزم ، بمكان سيكون حصني الثالث ، فقد أعطيت الأفضلية للزمن أكثر مما للمكان ، وقد قضيت في حصنين من حصوني الأربعة المفترضة ، أكثر من نصف زمن انتظاري ليلة القدر ، وكنت راضيا بأن أبقى ، زمنا أطول في ذات الفضاء ،  مميزات متلونة

ومتعددة ، تشكل فوارق حاضرة بين حصوني الأربعة ، وتظل الذات الشاعرة لحصني الأول ميزة  تغويني للعودة إليه من منتصف الطريق ، المرأة في حصني الأول ، أكثر حضورا من الهندية مصباح ، خادمة سيد حصني الأول ، وقد تجلت لي أسباب تمنعها ، تقديم وجبة

الفطور الفقيرة لي في أول شهر الغفران ، ولم تذهب بعد بي بعيدة تلك الشكوك ، امرأة ذات جمال متواضع وزهو غامض ، لست عاشقا غير صوري ، عشت راضيا في حصني الأول ، أقتات على ضالتها تلك الرائحة ..                    



- 4 –

الفوارق والمميزات التي تعنني في حصوني ، هي نسيج فضائي وحريتي المتاحة ، وقد استبعدت بيتنا وبيوت بعض أصدقائي ، فقد سمعت اليوم صدفة ، أن النحلة تطير في اليوم أثنى عشر كيلو متر ، لتبحث عن زهرة تمتص روحها ، وتعطينا عسلا مصفى ، والعصفور

يطير إذا نبت ريشه ، تبينت صورة مغامرة  غـامضة بديعة ، تعددت خيارات كثيرة في طريقي ، وقال الزمن كلمته الفاصلة ، وتذكرته يغني في مرات :
نطيت أنا الداب ، وأنيابه مشاويّك ، والله وقاني من أسباب المنيّة  ..
كم جئت ساري ، وأدور في حواريك ، عجلٍ وأخاف القمر ، يظهر عليه ..
يا سـدرةٍ ..! قاعة الغرموق يسقيك ، من مزنةٍ ، هلت مع عقربيه..
وتتغير نبرات صوته في لحظات صفو أخرى  يزدان غناءه إذا طرب ، وانتشى يغني :                                       
يا ليت شمر هلً لي      ..     دخيل همّ ما يضاما
رصاصهم  مستقلي      ..    يكسر صليب العضاما
يا نجمة الصبح طلي    ..      سروا عليك النشاما
تذكرت ، مرة وجدني قبله ، وقد صرت في داخل حصني الثالث  ، فلم يفاجأ إذ قال ببشاشة ظاهرة على محياه  :
-  بيوتنا في الشمال مفتوحة دائما ، ما نعرف نعيش غير كذلك ، ولو في قلب المدينة ..!                           
كان يضحك إذا لبست جاكيت محدد ، ويسمني بسخرية جميلة (الراعي .. ) ، ومعي كانت فوق مستلزماتي الشخصية ، أحضرت طبق حلاوة كنافة شامية ، اشتريتها من الحلواني الذي في حيًنا أثناء ضياعي ، لاقتناص زمن مناسب للولوج إلى فضائي الجديد ،  السحور

المغري في حصني الثاني ، تعودت أن تمتلئ معدتي ، بصنوف متعددة من حلويات لذيذة ، تعلن امرأة هي سيدة حصني الثاني عن براعتها ، وظننت أنها عادة لأبد أسرتني ، مما جعل سيد حصني الثالث ، يجيب ساخرا :
-    ليه تتعب حالك ، الخدمات من العصر ، مالهم غير هذا الشغل ..!
وضحك غامزا وقال :
-    وحنا ما لنا غير هاك الشغل ..؟    
في حوش سيد حصني الثالث ، مدينة العاب أطفال ، وأمام بيته عدد من السيارات ، وفي داخل بيته أعداد من العاطلين ، صرت واحدا منهم ، لا يغيب منهم أحدا بعد صلاة التراويح ، حكة بالمفتاح على الجدار الخارجي كافية ، لتميز القادم الجديد ، دون الحاجة لجرس الباب ،

القريب من الباب ، ينهض ليفتح للقادم المتحدي الجديد ، مثلهم بعد أيام صرت أقوم عادة بدور الخدمات  تنظيف الطفايات وصب أواني القهوة ، يعني دور خارج ميدان اللعب ، وفي حصني الثالث كانت هذه المهمة ، تشكل متعتي لقربي من صناع النكات ، و الكلام المباح

للقصير ذو الشوارب المصبوغة ، نصف ليل سيد حصني الثالث وظلاله ، لابد أن يكون في وجه هذا الرجل ، لا يغيب ليلية ، وإذا غاب فقدته ، وطرحت حوله  السؤال ..  
أعرف أنه جاء  قبلي إلى غرفة ، طليت جدرانها عدة مرات ، بسبب حرائق ليلية داخلية داخلها ، أميز حذاءه كحذاء طفل بين أحذية تشبه الكهوف ، أجده في مواجهة سيد حصني ، يتلقى الدعم والتشجيع مرة ، وأخرى شتائم وسخرية إذا خسر ، فيصبح دوره ممتصا غضب

سيد حصني ، مقلدا صوت وزير خارجية إحدى الدول  :
-    (  مشحوق .. ) !!
فيعج فضاء الغرفة بالضحك ، ورائحة التبغ الحادة  ، والكلام والتعليقات المتطايرة ، يتهمه أحدهم بالتخريف والضياع ، دون خجل الإعلان عن فشل زواجه ثلاث مرات ..
القصير المكير طاقة ، أدركت أن سيد حصني يعرف قَدرها ، كلنا جيل واحد غير هذا القصير ، فقد بقي  من ثروة والد سيد حصني وظله  ، مات وترك له هذه الثروة ، وينتظر ليلة القدر ، ليموت جده البخيل وتكتمل كامل ثروته ، وظل القصير ذو الشوارب المصبوغة ، وفيا

إلى جوار سيد الحصن مهرجا في الليل ، مدرب للطيران في النهار..
في حصني الثالث ، متناقضات كثيرة ، لست الوحيد الذي يحمل هما ،  متناقضا مع واقعي ، ففي هذا الحصن الصغير ، يعيش معي فيه ، ويتسامر نماذج سَميت بعضها  ، من باب التمييز ( طالباني - وبن لادن - وبوش ) ، كفرقاء بينهم عداء مضمر ،

لضفيرة من القضايا المتشابكة ، لا تحلها ليلة صراعات ، بل تمهد لأخرى ، تتحول إلى معارك ساخنة في ساحة اللعب والكلام ، يزعم ( القصير) ذو الشنب المصبوغ ، حينما يتلبس دعم سيد الحصن ، بأن يحلق لحية من يسمه ( طالباني ) ، حينما يفوز عليه ..      


الليل طويل في حصني ما قبل الأخير ، ولابد تجاوزه قبل تجلية نكات ، وحكايات القصير الساذجة والساخرة حينا ، والمفتقدة حينا إلى البراءة ، يسخر من زوجته الأولى بمرارة ، لأنها تكبره في العمر بسنوات ، فرضتها عليه أمه دون رضاه ، لا

يتورع أن يضمها في هجومه إلى صـف طالباني ، حينما يقصف مظاهر هم بلسانه ،  ويبقى وفاءه لسيد حصني هذه السنوات ، نفحه نادرة الزمن ..    
أنسل من بين النائمين العاطلين في النهار ، أجمع أشياء فاض بها فضائي  ما قبل الأخير ، أرتب طريق خروجي من حصن ، دخلت إليه خلسة ، وحانت لحظة زمن مغامرتي الأخيرة ، الحصن بطبيعة الحال ملئ بالنساء والأطفال ، ولابد من تلافي مواجهة ورؤية أحدا لي امرأة

في هذا الحصن تزوجت أربع مرات ، ماتوا أزواجها الأربعة جميعا ، ولم ينجب منها أحدا منهم من يرثه ، تمنيت أن أجدها في وجهي ، لتكون  رؤية وجهها الصبوح ، مفتاح نهار هذا اليوم ..
ليلتي القادمة في حصني الأخير ، رسمتها منتظر ا في نهايتها ليلة القدر المباركة المفترضة ، مؤجلة في نهاية أجنده رحلة ضياعي ، محتفظة بوقارها ومحضرا في ذاكرتي ، غاية أسئلتي المدهشة ، مشفعة كأنها الجليلة ليلة القدر ، شعرت بحساسية وشفافية ، تغمرني إذ

وطئت قدمي أرض الشارع  ، صفعني من جديد في وجهي هواء طري ، يغري بالتفاؤل الذي ما لبثت ، أن اكتشفت أنه في غير مكانه ، نسيت محفظة جيبي ووثائقي الشخصية ، تدبرت أمري على استعادتها ، وقد تجرأ القصير ذو الشارب المصبوغ ، على تفتيشها  في غياب

سيد حصني ، خلع علي قليل من الفكاهة ، ووسمني  بسخرية :
-  عنتر ما ينسى عفشه ..بس عبلة خبلت بعقله ..!!                 
أتذكر في طريقي إلى النهاية ، سألته مرة بنشوة :
-    أغرب ما رأيت ..؟
-     طفل جميل يقبل صورة في ظهر غلاف كتاب ، ويبكي  ..‍‍!
-     وما الغرابة في ذلك ..؟
-     الطفل الصغير جمح به خيال عظيم ، ظن أن الشيطان ينفخ فيه ..!
-     لم أفهم بعد ..!
-    هذا الطفل تبناه واحد من الذين لهفوا البلد ، قال يربيه ، يُدرس ، ويتعلم ، ويتطور ، ثم يسميه مشروع التنمية للشيطان ..!
داخل خيمة فخمة في حوش بيت واسع ، فيه حدائق جميلة منظمة ، بينها أشجارها زوجين فرنسيين من الأرانب ، قضيت معهما أغلب فترات وقتي ، في نهاية العشر الأواخر من شهر الغفران  ، مستمتعا بهما أكثر من معاشرة مخلوق أخر غيرهما  ، بالذات في النهار إذ غالبا ما

صرت وحدي ، قبل ما يأتي الليل بعواصف بشرية ، طال ما تمنيت مواجهتها ، ومنتظرا ليلة القدر المباركة ، وقد تصدقت وأخرجت زكاة البدن الحمد لله ، في طريقي إلى حصني الأخير ، خيمة أحلامي ، طالما سولت لي نفسي ، وتخيلتها..   



- 5 –

يقال في العشر الأواخر من شهر الغفران ، تصفد الشياطين في الأغلال ، وسيد ليل ظلالي وحصني الأخير ، بسط حكم الزمان شروطه ، بيني وبينه عنوان بارز ، وضعته في أجنده رحلة ضياعي ، وخيار أخير تأويله بسيط ، يقول بأن الله يضع  سره في أضعف خلقه ،

ربما به صادفت ليلة القدر ، وصاحبي شيطان متفرد في كل زمان ، يزداد إغراءه ، ويصفو بشفافية ، دون تبدل في شهر الغفران ..        
هذا الشهر ينتظرني فيه وعي حاد ، بأن شيء مغر في جو طاغ ، بروحانية وشفافية كافية ، لذبول أي نهاية متوقعة وجاهزة ، لرحلة ضياع طويلة ، لم تتبد في أول ليل شهر الغفران لتنتهي بنهايته ، وكان الله غفوراَ رحيماَ ، أشعر أني أختزن الوقت في رئتي ، وتتعدد

خيارتي ، وبينها تفردي برفيق ليلة القدر ، ووضع شيطاني المنتظر قيد الأغلال ، أحلام لم تكن قيد الحسبان ، تتبسط لي وتفرد مساحات هائلة ، أنتظر الموت للحياة في جنة الله ، لم أكن لأستطع أن أزكي نفسي ، صرت كتابا أبيضا مفتوحا ..
أدخل الليلة إلى حصني الأخير ،  بعد وقفة قصيرة ، بقرب فتحة الباب الصغير ، يدي في يد الفتي شبيه سيد الحصن ، قبلته بحب ورحب بي بسعة ، مشيرا إلى خيمة رحبة ، وسط فناء بجوارها مرحاض ، وفي الواجهة حديقة  واسعة ،كملعب كره في أوقات أخرى ، وفي

داخل الخيمة أرفف للصحف ، وورق اللعب وعلب السجائر ، وفوق هذا فالمكان ، ككل الحصون السابقة ، يتوفر به محطة فضائية ، المكان بالناس وليس الناس بالمكان ، فضاء رائع ينتظر أن تعيش فيه بشر رائعة ، وهم كذلك وليس المكان وحيد زمانه ، ليأوي ضائعا مثلي ،

لينتظر ليلة القدر ، تأتي إلي في نهاية شهر الغفران ..                                                                                   


باسم الله ، الحمد لله ، سبحان الذي سخر لنا هذا ، وما كنا له مقرنين ، وأنا إلى ربنا لمنقلبون ، الحمد لله ، الحمد لله ، الحمد لله ، الله أكبر ، الله أكبر ، الله أكبر ، سبحانك اللهم ، أني ظلمت نفسي فاغفر لي ، فأنه لا يغفر الذنوب ، إلا أنت ..  
اللهم أفتح لي أبواب رحمتك ، اللهم أني أسلك من فضلك ، أشهد أن لا الله إلا أنت ، استغفرك وأتوب إليك ..0
وجوه  الليالي الأخيرة ،   سمت سيد حصني الأخير ( أم الورد )  ، ووصفت حالات انفلات له مرعبة ، تحدث في ساعات الذروة ، كلام كثير قيل في مرات غيابه ، لم أنكر أنه كما قيل ( مجنون ) ، وأقريت لهم بذلك مرات متعددة ، دون درية إلا بحساسية مفرطة ، ربما

إشارة إلى أسم في ذاكرتي  ، ربما قرنته بدور رأيته على خشبه المسرح ، وربما أسم  لجميلة رأيتها في فيلم سينمائي ، وضربت معها ومعي ، وما كان في البال   ..    
( أم الورد ) سيد حصني الأخير ،  له أحياناَ نذالة بيضاء ، كأردية الليالي الباردة ، إذ لامناص منها كثلوج ( تورا بورا  ) الأفغانية ، وأنا أبيت في حصنه أول ليلة ، قال لي مازحاً :
- أنت تريد جنان عدن يا أخ ..وأنا أريد أودي الولد إلي أمريكا  ..أنت تريد الموت ، وأنا طبعاً أريد الحياة لأبني ، لماذا لا تريد له الذهاب إلى هناك للعلاج ..؟     
ورذاذ مطر يتساقط ، ليشكل فقاعات صغيرة ، مسحت وجه حذائي بباب الخيمة ، ومضت ليلتي الأولى ، أتملى في دفئ حصني الثالث والأخير ، هبت رياح الحوار الصاخب ، يوشوش وينغم بترنيمة إيقاعية خالدة للمطر ، المطر يجعلني في حالة ضعف ، شيء غامض سار ،

صفحة الماء في الصحراء ، مثلها في الجبل وفي الشواطئ ، تتشكل ذات الحالة ،  بغموضها الطري اللذيذ ، أما المطر فحالة ينبئ ، هطوله عن الولادة والحياة الجديدة ، رأيت ( أم الورد ) في نادرة  مرة مثلي ، يصغي لصوت وقع المطر ،  يقف في عرض شارع طويل ، وقد

كان يدفع ( دابته )  ويعينه عليها غرباء ، وحدث أن تعلقت بتلك الرؤية ، وأسلمت لروحي سجيتها ، تعاندني مرات حساسية مرعبة ، تصبح أحيانا يقينا ثابتا لا يتزعزع ، لا تنفع معه هدنة مفتعلة ، لتكون مرهم ،  يقي قدري ..    
أريد الخروج إلى فضائي الجديد ، فتشدني خيوط قدرية ، موجعة إلى مواطئ قديمة ، كان سيد حصني الأخير داخلا ،  وكنت للتو منه خارجا ، فوقفت بباب خيمتي ، وفيما يشبه الأمر ، أشاح لي قائلا :   
-    لا أحب الغيم ، ويملؤني  وقع المطر بالحزن ، أدخل إلى الداخل  ..      
رددت عليه فورا ، بفعل الدهشة :
-    أنا خارج يا صديقي إلى جنان عدن ..   
ورأيت تفاصيل صغيرة ، تتشكل في وسط جمعٌ ، ُرتب بغير عناية ، يتناثر كحبات المطر  في عمق الصحراء ، يصب قهوتها المرة ، للمتحفزين بالكلام ، فقطعت عليهم جميعا أوتار تحفزهم ، و أضفت بعض الكلام  :
-    لقد فتشت زوايا روحي ، وليلة القدر خير من ألف شهر ، وبقيت خارج ليال العيد ، ليلة أحسبها مجرد ليلة واحدة ..!؟
وضحكت بعد أن تأكدت ، بأن المعنى قد وصل ، فواصلت الكلام :
-    كل عام وأنتم بخير .. سأحتفظ بحقي وتفردي ، بأن يكون لي ليلتي ..
ووضعت عيني في عيني سيد حصني العزيز  ( أم الورد ) ، فرد علي بسخرية ، وخبث شديد ين  :
-    يا ربي ( عبده ) ماداً لك يده ..!
أصبت بحنق شديد ، وكتمت في داخلي  ضحكة ، وشر البلية ما يضحك  ، أفلحت وجوه سيد حصني الأخير ، أن تنتزعها وتخيلت العشرات في صفي ، تكلموا وربما سمعت أسماء أموات وأحياء ، تتناغم مع وقع سقوط حبات المطر ، أغرب ما سمعته منها ، وقع أسم الشاعر (

رامبو ) دون مبالاة ، وإذ لم يعد الوقت في صالحي ، رددت :     
-    الجميل جميل .. زي هذا المساء الجميل ، وتعرف وقت مناسب ، ولازم نلتقي ..
شعرت أن سيد حصني الأخير ،  يلبي على غير ما يريد ، يفتح لي باب حصنه الأخير ، شعرت بأني في داخلي ، قد حطمت أغلال في ذات اللحظة ، وتبتسم لي حياة ، ظلت مكنونة بخيوطها القدرية ، خيوط شمس يوم العيد الخجولة ، تفتر بعد ليل أدلهم ، فأضاءته ..
في طريقي الجديدة يوم العيد ، وقد صرت ذات أخرى من الداخل ، وعلى ظهري ذات الملابس ، وبيدي تحترق ذات الروح ، وبذات الخطوات واجهت العائدين من صلاة العيد، على وجوههم البسمات ، تضيء بقية من جيوب لم تضئ  ، بقيت عصية في عمق قصي ، لحصوني

القديمة المهجورة ، وثلة صبيان يفرقعون بينهم بـ ( طراطيع ) العيد  ، فتختلط أصواتهم ،  يتصايحون ، يهللون ، ( الله أكبر .. الله أكبر ) ، فتعلو أصوات مفرقعاتهم ، شعرت أني متعب بما يكفي ، رثيت روحي بسؤال كبير ( أين أنا ؟ ) ، وأسئلة كثيرة مكثفة ، تحوطني

متوجسة ، مترقبة توقيتها الموعود ، وأخرى تطل برؤوسها..0