بحث في الموقع

16

جاء يودعني، في طريقي لنفض آخر يوم من يوميات العزلة، ويقضي معي الليلة الأخيرة، وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة ، حينما عرف نيتي وقصدي، قال)تبغي تغير جلدك أيها الذيب...؟!( .
رددت عليه بهدوء، دون أن أكسر له هذه المشاعر المتدفقة نحوي قائلا: (قل حنش … قل أي زواحف أخرى …( ولم يدعني أكمل، ضحكنا معا، وكنت أتفرس ملامحه محتفظا برزانتي في الحديث، ليظل صاحبي على نفس الوتيرة من الحرارة والتدفق، ولأنني أعرف كم هو ملول متضجر، ولم أكن أقل منه حالا... ولئلا يفلت منا تناغم الحديث، صمت فسمعته يتأوه...!
انتظرت ثواني، مددت له فنجان الشاي، تطلع في وجهي كأنه يراني أول مرة، وتناول الفنجان وهو يسألني: _.أتعرف أحدا هناك...؟!
خشيت أن أقول له)نعم(، وطبعا أنا لا أعرف، فقد أذكر له اسما، أي اسم من الأسماء الثقافية والسياسية، على سبيل الدعابة من الأسماء التي نعرفها خلال القراءة والمطالعة في الصحف والفضائيات، ولئلا أدفعه إلي حديث غير جاد، فيفلت احتضاني له في الليلة الأخيرة، وقد مضى على أخر لقاء بيننا، أكثر من ست سنوات، فرقت بيننا أوجه الحياة والمدن، وما شعرت إلا أننا دائما مع بعض، وكأننا في مدينة واحدة وأرض واحدة، يسيطر على هذا الإحساس الساخن في مرات نادرة، في اتصالات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة كل هذه السنوات، قلت له بأسى وتنهيدة:
_ لا...لا أعرف أحدا... !!
وبذات الهدوء المفعم بالفرح قال:
_ طيب ممتاز...
وسألني بظرف:
ـ تبغي تعرف شاعر تنظيرات وفلة، ولا شاعر معلقات وفلة ومرسيدس... ؟!
ضحكنا معا، فقلت بذات الروح:
ـ طبعا نظرك كاف .!!
وكدت أضيف)طيب دلني على قاص تتوفر لديه بعض هذه المواصفات...) لكني أحجمت، أمام إضافاته العجيبة:
ـ )خلي بالك... لا يمكن جمعها في مكان واحد...(، وفهمت .
كنت قد قدرت، بأني سأحضر بعضا من فقرات مهرجان جرش الثقافي، وربما أحضر في حالة حاجتي لتجديد روحي وطاقتي، بعض مباريات المنتخب السعودي الأولمبي في عمان، وقد أوصتني كبرى بناتي بذلك لترى صورتي في التلفزيون وخصوصا مع المنتخب العراقي الشقيق إذا سمح برنامج العلاج، ولم أكن أدري أين أقيم... ؟ وقد استعنت ببعض المعلومات عن طبيعة التنقل والسكن والصرف، ولم أكن أعلم أن صاحبي سيسألني سؤالاً محدداً:
ـ كم ستصرف... ؟!
ولما أخبرته، بعد أن دحضته بنظرة فاحصة، أنني سأعتمد على بطاقة الصراف الدولي، أجابني باطمئنان:
ـ طيب عال... إذا بقيت في عمان أسأل عن)أم حمادة( ستأخذ عندها شقة خمس نجوم بتراب الفلوس، مقارنة بظروف السكن عند غيرها...!
وتناول ورقة وقلماً، ورسم)كروكي( موقع عمارة)المعاني( وحقيقة لم أفهم تدفق هذه المشاعر لصديقي الدائم الحذر، وفي طريقي إلى مدينة عمان، وقد غبت عنها طويلا، بعد أن جئتها عام 82 م آتيا من بغداد أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وقد بقيت في بغداد ثلاثة وستين يوماً كل يوم في ثوب . فتح عطا باب سيارته، وقد أوقفته كغيري من الذين ينتظرون سيارة الأجرة، لا أدري كيف كان حدسه حاذقا، وهو يشير إلي رغم أنني لم أكن الوحيد الذي يلبس ثوبا، ويضع عقالا على رأسه داعيا:
ـ تفضل... تفضل يا شيخ...‍‍‍!!
دسست حقائبي التي لم تفتش في مطار عمان في مقعد سيارته الخلفي، أقحمت نفسي إلى جواره، وحينما امتد بنا الطريق، ويعرف طبعا من أين أتيت، التفت عطا إلي قائلا:
ـ حيا الله ها اللحية...‍!!
كتمت ضحكة خبيثة في داخلي، ذات اللكنة التي ينطقها عطا ، هي لكنة صديق شمالي، قبل يومين من سفري، قال لي: عليك جيرة الله...إذا وصلت عمان كلمني... وفي ترجٍ زاد:
ـ كلها ساعتين، أكون عندك، والله ألا أخليك تشوف، اللي ما يخطر لك على بال...
وفكرت أن اللحية التي يهتف عطا بحياتها، هي لحية نمت على جلد حساس مريض يأبى أن تجز شعيراته ، فظهرت فوضوية كأنها شجيرات حراق، تنمو حول بيوت أهل القرى، ويلفف نسائها بالخضاب أيديهن بها...
أمعنت النظر في أنف عطا، وعينيه المتورمتين، وشعره الأشيب، وقدرت أي نوعية هو من الرجال، ساقتني إليه الأقدار، فقلت له:
_ إلا قل لي يا ابن العم... كم أجرتك... ؟!
وبصبر من يحرث في أرض بوار، عسى أن تثمر، رد بهدوء وبدون تردد:
ـ ما بين الخيرين حساب... أجرة عمان عشرون دينار... معروفة...!!
صدمني الرد، والمبلغ الضخم الذي حدده، ولأنني لم أكن أحمل نقودا، ولم أكن على يقين من جهة إقامتي، إذا لا أعرف هل سأقيم في عمان أو غيرها، أيقنت ألا سبيل للخلاص من عطا الوقت الراهن . ولابد إذا من مسايرته ومسايسته، كما يريد، لا جعله يركض أيضا في سراب، لكنه سألني فجأة:
ـ أين ستقيم... ولشو جايي... ؟!
قلت بلا مبالاة:
- عندي رحلة علاج وعمل...
وأردت مداهنته:
ـ أريد أسكن في عمان، ثم أذهب إلى)ماعين( خليك معقول، إذا أردت أن نذهب معا.
فرد عطا بثقة:
ـ إحنا البدو... ما بنخون رفيقنا... وأنت إن شاء الله لحية غانمة...
ونظر في وجهي:
ـ مشوار)ماعين ( معروف بثلاثين دينار...
رددت بضيق وسخرية:
ـ حياك الله... !
وبذات الثقة رد عطا:
_ الله محيي نباك...!
مددت عيني في السفوح الجبلية في طريق عمان، لأخرج من عالم هذا الرجل، أراقب السيارات الممتلئة بالبشر، تمشي وئيدة في محاذاتها، وأمامنا، ضغط سائقي في غفلة مني على شريط)كاسيت(، لتصرخ)أحلام( ويصرخ معها سائقي مغنينا، )نسيت كلمات الأغنية...(، وحينما التفت إليه في حالة احتجاج، سألني عطا بود مداهن:
_ وين بالله بتريد تسكن...؟
تذكرت )كروكي( صاحبي وصديقي، انتزعت الورقة التي دسستها البارحة في جيبي، وقلت:
_في عمارة)المعاني(...!!
_وين ها العمارة...؟
_شوف الرسم واضح...!!
_أنت جئت لعمان قبل هيك...؟
_نعم جئت...لكن ذلك من زمن قديم...!
_ ما رأيك نشوف لك سكن في عمارة أخرى...
وصمت عطا للحظة ثم واصل:
ـ خليك تأخذ لك فكرة...
ابتسم وناولني سيجارة بخجل:
ـ بعدين أوصلك لربعك في عمارة)المعاني(
وضحك وهو يضيف:
ـ)لم أسمع بها من قبل(
ضحكت معه بذات الخداع والمكر، وقلت له:
ـ لا بأس...خلك اليوم من ربعي...!!
انطلق عطا، يبحث عن شقة، في أكثر من خمس، أو ست أماكن متفرقة، في عمان، كانت الأولى، أرخص وأنظف، قلت له بعد أن تعب، وقد تركته يفعل ما يريد، وبدأ يتذمر:
ـ خذنا إلى العمارة .
_ العنوان مو واضح..
بعد جهد طويل، وعدة أسئلة، وصلت إلى البوابة الرئيسية ، لعمارة يقف شاب، في المدخل سألته بعد أن تأكدت أنني وصلت حيث أريد:
_)أم حمادة( فيه ..؟!
ـ نقول لها مين ..؟!
ذكرت لها اسم صديقي .رفع سماعة الهاتف .بعد ثوان .ناولني السماعة قائلا:
ـ خذ احكي ..
جاء صوت أم حمادة منتشيا متمرسا لم تكن تميز صوتي . طلبت مني على الهاتف أن أصعد إليها، وطلبت من سائقي أن يظل في مكانه، وقد حفظت رقم سيارته إذ لا زالت حقائب سفري بداخلها .
صعدت إلى الدور الثالث، حيث كانت)أم حمادة( تقيم، بعد أن دلني لمكان شقتها، الشاب)حارس العمارة(، أبلغتها أنني جئت من طرف صديقي نزيل عمارة المعاني ، وسأحل مكانه إذا كان لديها شقة فارغة، والحقيقة أني قدرت قيمة تجوال عطا، لقد أ صبحت ملما بأسعار السكن، فقالت المرأة البدينة، بدلال غير خاف:
ـ أنت لوحدك... ؟!
ظننت أن عمارة)المعاني( لا يسكنها إلا عوائل . ويبدو أني استمرأت)لعبة السراب(، فقلت لها:
ـ مبدئيا نعم... لكن لن تطول مدة بقائي وحيدا...
وشعرت أن المرأة تتفحصني، ولئلا تفهمني غلطاً:
_.قد تصل عائلتي بعد يومين... !!
وكنت في الطريق إلى عمارة)المعاني( قد لاحظت أنها أقل نظافة مما سبق، ومررت به، أطلعتني)أم حمادة( على شقتي المزعومة، شقه كبيرة وواسعة، يبدو أن لها ماضيا ولها خصوصية لا تخفى، سألتها عن قيمة الإيجار ففاجأتني قائلة بحزم:
_.أقل من عشرين يوما لن نؤجر...والإيجار خمس مائة دينار...!!
فغرت فمي وقبضت على جبيني بامتعاض، أخذت منها رقم الهاتف، أبلغتها تحيات، وسلام صديقي مرة أخرى، وخرجت، في الداخل بطريقي للخروج، حيث ينتظرني سائقي عطا، في غرفة الشاب حارس العمارة، رأيت سبع بنات، يدخلن إلى العمارة، وقد صبغن بأرطال من المساحيق وجهن، أسرعت الخطى إلى حيث عطا ينتظرني، وقد نهض حينما رآني، وفي الطريق إلى سيارته قال لي:
_ شو...يا رجل...كلمت بيتي، وفطس)الزلمه( في مكانه...
وكان يقصد الشاب حارس العمارة، وأضاف بطريقة لماحة:
_ شفت البنات...؟!
_ أي بنات...؟!
رددت لئلا يبالغ في هذا الدور، فرد كأن لم يكن شيء...
بلغ بي الحنق مداه، فهمت حجم ما تركه من قلق في ذات الشاب بكثرة أسئلته، اختصرت الطريق عليه:
ـ أرجوك...أنا متعب من السفر...خذني إلى الشقة الأولى.
وصلت إلى حي)الصويفية( في غرب عمان، حيث اخترت شقة لتكون مقر إقامتي، رأيت سيارات تقف أمام بوابة المدخل، ويقف في مكتب الاستقبال أناس محترمون، يلهثون بكلمات الشكر والثناء، لشاب في المكتب ويطلبون منه إبلاغ تحياتهم لزملائه الآخرين، وهم يودعونه، أخذت رقم غرفتي، وقد رأيتها من قبل، أفرغت محتويات حقيبتي الصغيرة في صندوق الأمانات، وكان الشاب مشغولا بفتاة إماراتية، نزيلة في هذه العمارة، مضى على وجودها عدة أيام، من غير أن تدفع لهم الحساب، وصار صاحب العمارة، يطالبها بدفع إيجارها، وطلبت منه، إيصال بقية حقائب سفري إلى غرفتي، شعرت بنوع من الاسترخاء ولئلا يتسرب)ماعين(، وفي الطريق التي تأخذ ساعة زمن، بادرته بطلب، إذا كان ذلك ممكنا، لعله يسمعنا في هذه الطريق صوت)فيروز( وإذا لابد قلت له، فهات)أحلام(، وكنت معه مسترخيا بجسدي، وهكذا فعل، أشجار الزيتون تغطي سفوح الجبال الممتدة بين عمان و)ماعين(، أشجار مباركة ترتوي بالبعل، وبي رغبة جارفة في استئجار سيارة نقل لتحركاتي، بعيدا عن هذا الصخب، لذا فعيناي تلتقط بدقة معالم الطريق، وقد بضيق في النهاية، ظللت صامتا، استمتع بانزعاج أحلام التي يشاركها سائقي الغناء وقد أقفلت عليه الحديث عن النساء والمرض والسفر، جعلته يفهم ما أريد، ويبدو أنه لم يكن أقل مني قرفا، لكنه لم ينبس ببنت كلمة، فقط بين آونة وأخرى:
_ يا حيا الله...
فأرد مرة بعدم الاهتمام، وأخرى بسخرية، دفعت دينارين من جيبه كقرض لبوابة دخول)ماعين( وأمام فندق وحيد ضخم بين جبلين أجردين هائلين لهما سوداء شديدة الانحدار، أوقف سائقي عطا سيارته وترجلنا معا إلى مكتب الاستقبال، شعرت أنني وصلت إلى مبتغاي، طلبت رؤية الطبيب، وفي مكتب يقع في مقدمة وحدة علاج منفصلة عن مبنى الفندق، أبلغني طبيبي بأنه لابد من البقاء تحت رعايته لمدة شهر، فوافقت مبدئيا بما لدي من فكرة عن طبيعة مرضي وعلاجي، ليلزمني بالمداومة لديه صباحا ومساء، وأخذت نصائحه وكلامه بيقين تام، لكن ذهني ظل مشغولا، في كيفية البقاء في هذه العزلة الجديدة، بين جبلين أجردين، أو أعرض نفسي لمخاطر طريق مخيفة، على أن أسلكها أربع مرات في اليوم، أو مرتين على الأقل ذهابا وإيابا، وستأخذ في كل مرة ساعة زمن، وخوف مرة لن يغري بالمجيء هنا مرة واحدة، وفضل طبيبي بقائي هنا، أسيرا لحالتي الصحية، بين جبلين، لا يحوم بينها الطير إلا بحذر وقد شكلت منها البراكين والمنحدرات، والمياه تخر من بين صخورهما السوداء الملساء، قبلة للوافدين من كل مكان، مما جعلني، وأنا أتطلع عبر نافذته، إلى عمق الوادي، عن سبب غياب الاستثمار، عن هذا المكان، ولم أكن أدري أن سذاجتي، أو أي شيطان، دفعني لذلك السؤال، ليجعل طبيبي يصرخ في وجهي:
ـ مش البترول العربي مستثمر بشكل صحيح... !!
هززت رأسي، المستند الآن على راحة يدي، المتكئة على حافة النافذة وبإيجاب، وأضاف:
_ لا عاد...
ونظر فيَّ ساخرا:
ـ تبغي اللي عنده أموال، يجئ يستثمر في)ماعين(... ؟!
لم أكن بحاجة لمواصلة حديثي، وجزمت بدأت بناء علاقة غير سوية، مع طبيب سأظل شهرا من الزمان تحت رعايته الطبية، وما علي إلا أخذ برنامج علاجي ومواعيده، فحالتي النفسية ليست قابلة للأخذ والعطاء والنقاش المنفعل، فدلني على امرأة عراقية تقتعد كرسيا في المدخل، ظننت في البدء أنها مختصة في علاج السيدات، أومأت لها برأسي، فردت بأدب، وسجلت مواعيد حجزي لديها، جذبت سائقي الذي كان يشاهد المشهد، من ذراعه وخرجنا .وخرير الماء في شلالات بديعة يغري، ومناظر البشر، يتساقطون في مياها يثير الشفقة، مما ساعدني على لجم لسان سائقي، وقد بدأ يتبرع بإلقاء خلاصة تجاربه مع مرضى سابقين، وقد عزمت على مرافقتهم في قادم الأيام .

17

في الطرف الأخر من أحد الجبلين، طريق تؤدي إلى مغارة، عميقة في داخل جبل، وعبارة عن) سونا(  طبيعية، ومياه حارة حارقة، بني بجوارها مسجد صغير ودكان وشجرتا نخل زرتهما قبل العودة إلى عمان، لأقف على جزء من برنامج علاجي، سألت الرجل الواقف في مدخل المغارة يبيع مياها باردة ومرطبات وبسكويتا عن كيفية الوصول إلى المغارة وإمكانية رؤيتها الآن قال)ناصر( الذي صار صاحبي فيما بعد:
_.الزمن الآن للنساء... وسيبدأ موعد الرجال بعد السابعة...
وكان علي أن انتظر أكثر من ساعة، فبحثت عن سائقي عطا، فوجدته يحادث رجلا يمانيا عجوزا، مريضا بالكلى والسكر، ويفترش قطعة كرتون، يتقاسمها مع ابنه، وقد جاء لمرافقته، وتحت إحدى الشجرات، يأكلان وينامان ويغتسلان في هذا المكان، مما جعل حالته الصحية، وظروف حياته تثير شفقة زوار)ماعين(، الذين تفرقوا بين شجر ينمو على جال ماء يجري ساخنا في وادي)ماعين(، ناديت عطا أحثه لنغادر قبل حلول الظلام إلى عمان، وسمعت ناصر يصيح بي، وقد كدت أركب سيارتي:
_.يا أخ الشفاء من الله... إذا عزمت فتوكل...
اقترب مني وقد أوقف سائقي سيارته،:
_.)أبو عبدة(، الرجل الناصح في غرفة )التطين(  وهو الذي ممكن يفيدك...
هززت رأسي موافقا، وفي نفسي رددت، إن شاء الله، فسمعته، وقد أخرجت له رأسي من باب السيارة:
_.لا يهمك الدكاترة كلهم هلس، من يومين كانت عندي)ليلى(
وحينما لاحظ دهشتي أضاف:
_.بنت لبنانية، وكل الله، ما عرفتها أمس، تعالجت على يديه.
شكرته ومضيت أنا وعطا إلى عمان، وقد أضمرت في داخلي أن لا بد أن أتخلص منه بأدب . وقبل هذا لابد أن اصرف شيكات...لأتغذى وأشتري كتبا ومجلات، وكل مستلزمات العزلة الاختيارية المنتظرة، ثم أحاسبه حتى يرضى... وقد كان...بعد سفر يوم شاق...ورحلة طويلة برا وجوا... طلبت من فندقي أن يعمل لي)شيك آوت( ويوفدني الرابعة ، صباحا بعد أن يكون قد أمن لي وسيلة، تنقلني الى)ماعين(، ولهول ما حدث لي في الصباح، إذ فوجئت أن عطا ينتظرني في سيارته، بل بادر بنقل حقائب سفري إلى سيارته في الساعة الرابعة صباحا، ودعت)إبراهيم(، طالب جامعة فلادلفيا الأمريكية، المتبرع لي بالبحث عن كتاب)الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية( روجيه جارودي، ليكون جاهزا فور عودتي...
إبراهيم متورط، في إسكان الفتاة الإماراتية التي لم تدفع، أحزنني واقعه وحاولت أن أدفع ، ولسبب ليس له علاقة به ركبت إلى جانب عطا، وقبل الخامسة صباحا، قبل أن تهوي خيوط شمس)أغسطس(، كنت أتشبث بمقعدي في منحدرات جبال)ماعين( إلى عمق الوادي، في رحلة نزعت رغبتي في استئجار سيارة، لآتي بها وحدي إلى مراكز العلاج ثم أعود إلى عمان للمبيت اختيار البقاء في)ماعين( يفقدني متابعة أنشطة ثقافية ورياضية في جرش، ويبقى عالمي محدود، بين غرفتي والشلالات والمغارة، وغرفة)التطين( العتيدة...
أرسلت حقائب سفري إلى غرفتي الجديدة ، في الفندق الضخم الوحيد في)ماعين(، ودعت سائقي عطا بالقبلات مطمئنا ، بأنه لن يعود هذه المرة...
لم يحن موعد طبيبي بعد، ما زال لدي، ما يقارب الساعة والنصف من الزمن، قبل أن أخضع، لأول رحلة علاجية، تقترب من شهر كامل، ارتديت ملابس السباحة، وهبطت بصعوبة إلى شلالات، رأيت الناس أمس تحتها، ولحسن حظي فالوقت لا زال مبكرا، ولم يكن في المكان، عدد كثير من الناس، فقط ثلاثة أو أربعة ، متفرقون على مساحة الشلال، الممتدة بطول الوادي، اخترت مكانا منـزويا، ووقفت أسند ظهري للجبل، أدعك جسدي بمياه، تخر من أعلى الجبل، تنساب حارة فوق صدري المتعب ، مشكلة جداول في عمق الوادي رجل عجوز سبعيني، يقترب مني، يتبعه صبي ظننته ابنه، يعاني من ذات المرض، أخذ يتسلق المنحدر المائي، واندمجت معه، في حديث عن المرض، ومياه ماعين الحارة، وفجأة)‍‍‍‍‍؟ ‌( نهر العجوز ابنه بتذمر، طلب منه أن يخرج من الماء بسرعة، دون رغبة منه، ليتركني وحيدا، إلا من هواجسي، ليداخلني الخجل، والشك والخوف، بأن الناس ستنفر مني، وسيذهبون في تأويلاتهم بعيدا، خوفا من عدوى المرض ، كادت هذه الحادثة بالذات، أن تفسد رحلتي، راودتني النفس الأمارة بالسوء، أن أستقل أول حافلة مغادرة أو أي وسيلة نقل، أهجر)ماعين( ومياهها الحارة، والعلاج فيها إلى الأبد...
ظللت أراقب الرجل العجوز من مكاني بدهشة، نظراتي الحانقة تتابعه، يقفز درجات الصعود كماعز جبلي، امرأة بدينة وثلاث صبايا يقتربن مني، المرأة تغطس في الماء، تلقي علي تحية الصباح ، وشمس ترسل خيوطها الذهبية في عمق جداول ماء راق، وكلام لم يجعلني خريره أسمع بشكل جيد، خجلت من نفسي وقد بقيت الرجل الوحيد، خرجت أتبع العجوز والصبي، وعلى رأسي، أفردت إحرامي، أعياني التعب، فتهاويت في منصف طريق الصعود، اعتليت فوق حجر وأدرت وجهي للشلالات...
البنات الثلاث يغطسن في الماء، أخذتني رؤية المشهد، استنهضت سنوات بعيدة من طفولتي، تعقب هطول الأمطار، والغدران الممتلئة، تلوح إحداهن بيده مزمجرة:
_.انقلع...اقلب وجهك...‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
تأكدت، أن لا أحد غيري معني بسبابها...
أحرك رأسي، إيماءة خجل وأنسحب. .
ذهبت إلى مركز العلاج ، أنتظر موعد طبيبي، التقيت سكرتيرته العراقية، كنت في شغف للاطمئنان قبل التورط في رحلة علاج طويلة، سألتها عن)أبو عبده( الرجل الناصح)؟(، لم تعطني جواباً، ظلت تتغنج وتتمحك وتتساءل، لم تعطني جواباً… أخذت مكاني في مكتب الطبيب أبادله كلمات مجاملة بعد لقاء الأمس الساخن فإذا برجل سمين هادئ الملامح ، يدخل ويلقي علينا تحية الصباح، وقفت بفرح وصحت به مرحبا:
_.أهلا...
نظرت في جسده الناصح، وسألت بجراءة:
_.)أبو عبده( أكيد)؟!(
_.أهلا وسهلا..
رد ومد يده مصافحا ..
وعلى وجه هادئ ابتسامة عذبة، ناوله الطبيب ملفي، أشار له أن يعتني بي، وبشكل خاص، نظرا لحالتي النفسية المرضية، مشيت خلف)أبو عبده( عبر ممرات مائية، وبشر ومرضى يسبحون ويغتسلون، في حمامات وبرك سباحة، ومغاسل أجرجر أقدامي خلف )أبو عبده(، دون أن نصل إلى الغرفة الأخيرة انعطف يسارا، ومال علي قائلا:
_.من أوصاك علي ..؟!
شعرت أنى اندمجت معه، بما يكفى، وقد أخذتني مناظر المرضى، حول البرك، وكأنهم أعجاز نخل، أو ضحايا حروب، نسيت مرضي وقرفي، ومدة شهر أقضيه بين جبلين، ويدي )أبو عبده(، ركبتني حالة هستيرية من الضحك أتأمل مشواره يوميا، بين الأجساد المتناثرة، وظل سؤاله معلقا، ينتظر جواباً عمن دلني عليه)؟!(  بدأت ملامح غرفة)التطين( تتضح، بل أني صرت في داخلها، قلت له بلا مبالاة:
_)...( اسم صديقي المثقف المبدع اللامع، هو الذي دلني عليك...
وبدون مقدمات، وبذات الفرح وروح الفكاهة التي تغمرني، رد )أبو عبده( قائلا:
ـ أهلا...وسهلا...أيه والله...أش أخباره...)؟!(
لم تفتني الطرفة، وقد أيقنت أن)أبو عبده(، لم ير وجه صديقي يوما ما، ولو صورته في إحدى الصحف، لأن)أبو عبده(، لا يقرأ الأدب، وما أظنه إلا كذلك، عاش في ألمانيا إحدى عشر عاما، وقضى بقية سنوات عمره الأخيرة، في هذا المكان، ما بين مكتب الطبيب، وغرفة)التطين(، سألته مباشرة:
ـ هل لا زلت تذكره ..لقد جاءك قبل أربع سنوات ؟!.
ـ نعم ..نعم الله يذكره بالخير .
وأضاف بثقة، تجعلني أضحك كلما تذكرت:
ـ هل ما زال في الدمام .. ولا انتقل إلى الرياض ..؟!
ـ طبعا لا زال في الدمام .. !!
ـ هذه غرفة)التطين(، كل من يدخلها لن أنساه أو ينساني ..!!
وفي غرفة)التطين(، برميل مليء بطين البحر الميت الساخن، وسرير ولفة بلاستيك،
فجأة)!!(  التفت )أبو عبدة(، وكنت لا أزال خلفه، وقد تغيرت ملامح وجهه الهادئ، وكأنه قائد عسكري، يصدر علي أوامره:
ـ أخلع ملابسك يالله ..!!
وحينما لاحظ ترددي، وخوفي وخجلي، أضاف بذات النبرة الآمرة:
_ أحنا رجال يالله ..!!.
تطلعت في وجهه مستسلما، قبل أن يغطس جسدي في الطين الساخن، غير آبه بصياحي، أو أدنى شفقة بتأوهاتي، ثم غطاني بلباس بلاستيكي، يسهم في زيادة الحرارة، ويطفئ الضوء، ويسحب الباب خلفه، ليتركني مغموسا، في الطين عيناي وحيدتان تسبحان، في ظلام دامس، ويخرج.

18

ظللت نصف ساعة، مغموساً في طين البحر الميت، قرأت سوراً قرآنية، وأبيات شعر، وغنيت قبل أن يأتي) أبو عبدة(، ليأخذني إلى الحمام )جاكوزي(، في أول مراحل علاجي الطويل..
هنا، استرحت بعد حرارة الطين..
استرخيت، وأشعلت سيجارتي الأولى، أطل إلى بركة سباحة عامة، كبيرة لغير المرضى، أتابع لعب فتاة تسبح، وفتى ذا عضلات بارزة، ظننت في البدء أنهما زوجان أوربيان، مأخوذان بمياه)ماعين( كأن لا غيرهما، في المسبح الممتلئ بالآخرين، وددت لو شاركتهما في هذا المسبح الكبير . لحبي أولا السباحة، ولأخرج من هذا القيد، الذي فرضه علي طبيبي، طين جاكوزي، وحمام شمسي منفرد فوق السطح، أعرض فيه جسدي للشمس، طلبت فطور وكتبي، والصحيفة الوحيدة التي تصل إلى هنا، وعرضت جسدي للشمس، وما زالا يلعبان بدون ملل أو كلل، وظللت أراقبهما، فجاء صدفة موقع غرفتي مباشرة فوق المسبح، وهما يلعبان بذات الهمة، والنشاط والحيوية والروح إلى آخر النهار .
قبيل الغروب، أعددت نفسي للجولة الثانية، من برنامج علاجي، بما فيها الدخول إلى غرفة)التطين(، وقبلها الذهاب إلى المغارة، وستكون أولى الزيارات لها، والوقت الآن مخصص للرجال، وسأؤجل)التطين(، إلى ما بعد حملت محارمي وهرولت عبر منحدر عميق، متوقعا أنني سأجد)ناصر( في مدخل المغارة، يبيع الماء والمرطبات والبسكويت، ويحدد مواعيد الرجال والنساء، كما تبلغه بذلك إدارة الفندق، ولم يكن)ناصر( في مكانه بالأمس، كانت إحدى الصبايا الثلاث، اللاتي طردنني أمس، من تحت الشلال تداعب طفلاً صغيراً في حضنها، عند باب الدكان، ألقيت عليها السلام، فردت بحشمة وأدب، وبالتأكيد لم تكن لتنكر ملامحي، سألتها عن)ناصر(، قدرت أنها في العشرين من العمر، وفي غاية الرقة والجمال، أبلغتني أن الوقت ما زال مبكرا، وأن الدور لا زال ممتدا للنساء...
توضأت، ودخلت المسجد، لأصلى صلاة العصر متأخرا، فوجدت رجلين نائمين، وقبل أن أفرغ من صلاتي، وفي هذا المسجد الصغير رأيت أناسا يصلون بطرق متعددة ومختلفة، وفرغت من تفقد مكتبة المسجد، وألقيت السلام على أحد الرجلين النائمين المسنين، دعاني للجلوس إليه، بـدا لي في العقد السابع أكبر من شقيقه الآخر الذي ما زال نائما، كانا معا قد جاءا بسيارتهما من)الجوف( ليعالجا من مرض)عرق(النساء، والتداوي في مياه)ماعين( الحارة أبديت له رغبتي، ومن ثم الذهاب إلى مياه وطين)البحر الميت( للعلاج، فجأة ! ثار في وجهي بغضب:
_.هؤلاء الذين ظلوا بطريقة خاطئة . لا أستطيع أن أغير منهم شيئا ..
وسألني بغضب، كأنه وصي علي:
لكن أنت .. !؟
نظر متحفزا، وكان الشرار يتطاير من عينيه، وقال بغضب يسألني:
_ لماذا تذهب إلى مكان نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لأصحاب الأيك، قوم النبي لوط، إنه بحر نجس...إياك والذهاب إليه...)!!(
أيقنت أن الزمن المخصص للنساء قد انتهى، استأذنته، وحملت فوطتي فوق كتفي، وخرجت من المسجد، دون أن أرد عليه...
وفي طريق المغارة، زحلقت قدمي في ماء حار، ويبدو أن حديث)الشيخ( قد سلب فكري ووقتي...
سبقني الناس إلى المغارة، حرضني أحدهم، وقد لاحظ خوفي وترددي، لعلي أتجرأ، وأقفز إلى الماء، داخل البركة المليئة بالبشر، وفعلت...
كان الماء ساخنا ، وكلما اقتربت من جدار الجبل، اشتدت سخونة الماء وهدأت أعصابي حتى تعبت من العوم، فزحفت على مرفقي وركبتي إلى داخل المغارة وسط ينابيع على درجة من الحرارة، ويفعل هذا غيري ممن يودون الدخول، فوجئت أن)الشيخ(، سبقني داخل المغارة، وقد انتظم حوله جماعة من الرجال جاءوا من كل مكان، أخذت مكاني بينهم، وحينما لاحظني، دعاني إلى جواره، يبدو أنه مقتنع في قرارة نفسه بوصايته عليَّ، ويده على أعلى فخذه، أشار إلي:
_ هنا مكان الألم...)‍‌؟!(
مددت يدي إلى حيث يشير، وفركت وركه، للبحث عن مكان الألم، تأوه بألم، ليدفعني إلى الاستمرار، وقال:
_ عافاك الله وشفاك...وجزاك خيرا...)‍‍‍‌‌‍‍‍!!(
وإذ لا بد من الاستمرار، في دعك وركه، فيما الرجال المندسون في المغارة، يتبادلون الكلام، ومعهم )مريضي(، الذي ما زلت ادعك وركه بنشاط لا يخفت، كان إلى جواري مسن أخر، نهره) فجأة(  الشيخ مريضي بقوة:
_ تأدب يا أخي بأدب الإسلام...قلم أظافرك، انتف إبطك...)!!(‍‍
فتر نشاطي، في فرك ورك، مريض عرق النساء، زحفت على ركبتي، ومرفقي في مياه الينبوع الجار، في طريقي للخروج من المغارة، إذ ما زال الكلام ممتدا بينهم، وجسدي يندى من كل شعرة، اقفز كالملدوغ إلى الخارج، تسقط مني فردة الحذاء، فقدت الصبر للبحث عنها، لأسقط مرة أخرى، في بركة الماء الحارة، وسط مجموعة، كل منهم يحاول إغراق الآخر، يقترب مني الذي دفعني، في البدء للنـزول إلى الماء، يجاذبني أطراف حديث، فأعرف انه مدرس، معه والده وابنه، أبلغه أني فقدت فردة الحذاء في المغارة، ولم أفلح في الحصول عليها، وقد حل الظلام، ارتدي إحرامي ، واهم بالمغادرة ، دون فردة حذائي المفقودة، فناداني المدرس:
_ وين تروح بدون)حفاية(..؟
جاء ابنه، أشعلت له ولاعة، ليرى فردة حذائي المفقودة، وأشعلت له أخرى… استقرت حذائي، في مدخل المغارة، ولساني يلهث له بالتقدير.  أرفع رأسي، أتطلع بتعب، ويأس إلى إضاءات، تنبعث من غرف الفندق، كأنها نجوم بعيدة، وقد وجد ابنه حذائي مستقرة، في مدخل المغارة، ولساني يلهث له بالدعاء، أويت إلى فراشي، في التاسعة مساء، بعد أن قطعت مسافة قصيرة، على ثلاث مراحل، فلدي في الغد جولة جديدة، من مراحل العلاج، تبدأ في الخامسة صباحا، وبي رغبة في مشاهدة جزء من حوار لبرنامج تلفزيوني فضائي، وطلبت من موظف الاستقبال، إيقاظي في الخامسة، وخلدت في نوم عميق، بعد تعب نهار شاق، ويبدو أنني سبحت في أحلام عجيبة، إذ نهضت تراكمات طفولتي، في قرية جنوبية نائية بكل تفاصيلها...
رأيت نفسي فيما يرى النائم عارية، من كل هموم الدنيا الفانية، نسيت واقعي المرضي، والوظيفي والعائلي، نسيت الأولاد وزوجة، تركتهم في أجواء الرياض الحارة، يتدبر من يريد منهم، الالتحاق بالجامعات والمدارس أمره بطريقته، فبواسطتي أضعف، من معدل من لم يسمح له بذلك صحوت بخوف، فركت عيني، رأيت عبر النافذة جبال)ماعين(، دعيت لأطفالي بالتوفيق، وعدت إلى سريري ، والمخدة على رأسي، تفرغت للنوم والأحلام...
وفي الخامسة كان جرس الهاتف لي بالمرصاد، والظلام ما زال دامسا، لبست لزوم الرحلة، وبي تردد بين أن أصلي في غرفتي، أو أصلي في المسجد المجاور للمغارة، فقد أجد من يصلي معي...
هرولت خارجا من الفندق إلى عمق الوادي، فوجئت بعدد هائل من السيارات آتية من كل المدن العربية القريبة، فضحت لي لوحاتها أماكن قدومها، وعدد غير قليل من الرجال والنساء والأطفال، أحيوا في ذاكرتي شوقاً لرؤية أطفالي وعائلتي، وبغصة في الحلق، ذابت بعد أن رأيت أعدادا منهم نياما، في أوضاع نقيصة ومزرية، وهم يفترشون العراء، إلى جوار بعضهم، بما فيهم والد الصبايا الثلاث، اللاتي طردنني في اليوم الأول من الشلال، والعجوز الفلسطيني الذي طرده)شيخي(، ومريض البارحة، بسبب عدم تنظيف إبطه وتقليم أظافره، هونت على نفسي بأن حر الرياض، أرحم لأطفالي من هذه الحالات المزرية، وكان)ناصر( لحظتها، في جدال عال وعنيف، على غير العادة ، مع ثلاثة شبان، اختلفوا فجأة)!!( بعد تحيات وقبلات، عرفت أنهم امتنعوا، عن دفع قيمة دخول المغارة، بما يعادل ربع دينار لكل فرد، ومد أحدهم لناصر، ذراعا موشوما، وقد كتب عليه اسم)فاطمة(:
_ يلعن أبو )جيم(...
ورفع رأسه إلى مبنى الفندق:
ـ يا)زلمة( الأرض أرضنا...)!!(
رد ناصر بلطف، لا يخلو من تحد ومداعبة، ليقنع الشاب المنفعل:
_ هيوه...هيوه الفرنسي)جيم( في الشباك...
وتذكر أنه يعامله بالذات بلطف:
ـ هيوه... يعد الداخلين إلى المغارة .
ألقيت عليه تحية الصباح . ابتسم، وسألته:
_ لماذا هذا الانفعال مع صباح الله...؟
وأشرت للحاضرين:
_.وليه مزعل الشباب...؟
وجاء الجواب أشد غرابة وقسوة، وقد سمعت حوارهم، قال ناصر:
_ الشباب ما بدهم يدفعوا...؟!
وكأنما يردد قناعته الحقيقية أضاف:
ـ المياه بها صوديوم وكبريت وكل أنواع المعادن...
وقال بثقة وكبرياء، مستغرب منه:
ـ الشاطر يبيع طين وماء...‍!‍‍‍‍‍‍‍
ضحكت ومرقت إلى داخل المغارة، دون إبراز بطاقتي الحمراء، فقد صار وجهي مألوفا، لكل عمال مرافق الوادي، ولناصر بالذات...ويبدو أن الناس النيام جاءوا من الرياض ومسقط والكويت وعرب الأرض المحتلة، ومدن أخرى عربية، كلهم ينشدون التداوي والشفاء...
لم أعرف أحداً من الوجوه الكثيرة في البركة والمغارة، والشمس بدأت الآن، ترسل أشعتها إلى عمق وادي)ماعين(، الصبي الذي سحبه والده، حينما غطست معهم، في اليوم الأول، وكاد يعقدني، ويجعلني أعود من حيث أتيت، وحده كان وجهه مألوفا لي، ومعه عدد كبير من الشباب، والأطفال والرجال المسنين يملؤون ماء البركة، ويسدون مدخل المغارة، زحلقت قدمي في الماء الحار وجدت مكانا قصيا داخل المغارة، كان هناك حديث، أشد سخونة، بين رجل تتجسد في لكنته البداوة، وبين رجلين مسنين من رجال عرب الأرض المحتلة اكتشفت وجود الرجل الذي ادخل الخجل والشك في قلبي، ووالد الصبي يصوب نظراته الحارقة إلى جسدي...
يا إلهي ! كلما أدخل هذه المغارة، يأتي من يخرجني)!!(
لم يطل مكوثي، خرجت مسرعا، فقد باتت نظرات هذا الرجل، تؤلمني وتزعجني وتحرقني، وتزرع فيَّ هاجس التذمر والتفكير في السفر، فلبست إحرامي، ولم يعد بي رغبة في الغطس، والوقوف تحت الشلالات، فأخذت طريقي إلى فندقي، وكان ناصر يعب في موعده، من إبريق الشاي الصباحي، ولم أتتردد في مشاركته، ناولته سيجارة، أشعلت أخرى، قضيت وقتا غير قصير، لعل ملابسي تجف، وكدت أشكو له، هم نظرات الرجل المسن، وعبرت له عن صعوبة الصعود إلى غرفتي في الفندق، وقد بدأت الشمس، تبسط أشعتها في الوادي، وتسقط حرارتها على رؤوس النائمين، فرد علي بلطف ومودة، مشيرا إلى آخرين، وبسرعة حرضني:
_ هيك... هيك الشباب . .
وأضاف بحسرة:
ـ لو خبرتني، كان حكيت معهم، يأخذوك وإياهم...؟
ناولته فنجان الشاي، وقلت:
__ تصرف... !
وأضفت بقلة حيلة، وبيأس:
_ بالله... رياضة وتخسيس...‌)!!(
مضيت، انقل خطواتي المتعبة، وأنفاسي اللاهثة، بالكاد وصلت، واتجهت فورا إلى المصعد، المودي إلى غرفتي، سمعت صوتا ينادي:
_ يا حاجي...يا حاجي...)!!(
التفت، فإذ ذات الرجل، صاحب النظرات المريبة، يتجه مقبلا نحوي، وطنت نفسي، على معركة معه، وقد اعتراني الغضب، علي أن أضغط على أعصابي لئلا أمسك بخناقه، وبت لا أدري كيف أتصرف)؟(، وقد لففت جسدي بفوطة واحرامات،  وعلى بعد خطوات مني تأكدت أني معني، فإذا به يبادرني:
_ أنا كلمت الحاجة عن حالتك...
وحينما تأكدت أني المعني انتبهت:
ـ الحاجة قالت أن علاجك في)مارمية محروقة...وشجرة الهوى...وشمع من العسل...وزيت زيتون نقي(، أخلطها، وادهن بها جسدك...)!!(
سألته بحرارة وشوق، وقد فاجأني حديثه:
_ كيف... كيف... ؟!
صرخ في وجهي بعنف:
_ أنت ما بتفهم...؟
وبخجل تطلعت في وجه، ارتسمت عليه خيوط الدهر:
ـ ها إني أقول لك للمرة الثانية...؟
وصل المصعد، صافحته مودعا، وشاكرا اهتمامه ولطفه، اندفعت بجسدي داخل المصعد، ذهبت لأصلي وأتناول فطوري، وأستعد للذهاب إلى غرفة)التطين( وليقضي الله أمرا كان مفعولا، فجأة)!( ظهر الشاب المفتول العضلات الذي ظننته زوجا أوربيا ، ينظف المسبح تحت نافذة غرفتي، ويعيد ترتيب الكراسي، والطاولات والمظلات، مما يجعلني أصرخ فيه مستنكرا:
_ يا أخ...)!!(
وحينما التفت إلى مصدر الصوت، رآني في شرفة غرفتي فسألته:
_ أنت تعمل هنا...؟
هز رأسه إيجابا، دون كلام، كنت قد فرغت من صلاتي، وتناولت فطوري، وما هي إلا لحظات ، وغمست سمكة الماء البشرية جسدها في المسبح، لتعوم وحيدة تحت نظرات الشاب مفتول العضلات، وذهني مشتت بين رغبة البقاء للفرجة، أو إكمال مراحل علاجي اليومي .

19

قررت التخلي عن مراقبتهما، ونزلت إلى غرفة )التطين(، حيث ينتظرني )أبو عبده( والصبي سفيان، المعني بتنظيف غرفة الطين من المخلفات بعد المتطينين، وقد هجر المدرسة بعد أول إعدادي، لأن )الاختيار( العسكري تقاعد من عمله بعد أن حمل) الاختيارية(، مسؤولية إعالة عشرة أولاد، أكبرهم سفيان، سألتهما وهما يعدان الغرفة، ولم يعد بي خوف وخجل، والحديث عن أحوال السمكة البشرية، ووصفت لهما شكلها، وسؤال عن سبب بقائها في الماء طيلة النهار)!؟(، فاختلفا في بعض الجزئيات، لكنهما معا اتفقا أنها امرأة عجوز أمريكي ثري، يأتي لمرة واحدة، في السنة، أما هي فتأتي إلى هنا أكثر من مرة في السنة، ليومين أو ثلاثة ومعها ابنها)كيفن(، لتقضيها على  هذه الحال في المسبح مدة بقائها، وقد فرغ )أبو عبده(  ولبسني الطين، بعد أن استسلمت وسلمت أمري إلي الله، وسلمت له جسدي دون عناد، وضع البلاستيك فوق جسدي، أطفأ النور، وسحب الباب وراءه، وقد سمع صوتي، وصراخي أمس، فقال بدعابة، متوعدا لئلا أكررها:
_ أقرأ قرآن...شعر...غن...
سحب الباب وخرج وفي فمه:
_.ابك على كيفك، المهم تغمض عينيك قليلا، سأرجع وأشوفك...!
غرست إبهامي في غطاء البلاستيك، تحت جسدي، كي لا أتزحلق إلي اسفل، أغمضت عيني، ذهبت في إغماءة، رأيت المغارة تنشق، وبدا لي أنني أشاهد وجه السماء، كنت في المغارة أتوجس، لو أن البراكين فجأة)!!( ثارت وابتلعتنا، خفت وصحوت...
انتهت فترة)التطين( وخرجت. ولا بد من المرور على مسبح، وبرك ومغاسل، ومرضى الركب والدسك. حيث يبقى المرضى لوقت طويل هنا، في المياه الحارة للتدليك. همس في أذني الصبي سفيان، وكان يتبعني حاملا ملابسي إلي غرفة )الجاكوزي(، قائلا:
_هيوه... هيوه الرجل الأمريكي...
وفي فرح قال لي:
ـ هيوه جوز البنت اللي في المسبح...)!!(
أتأمل وجه رجل أسمر، أصلع مفتول العضلات، قوي البنية .يسبح في حافة البركة، مضيت إلى غرفة )الجاكوزي(.طلبت زجاجة ماء وصحفا وتبغا وشايا، قبل أن ينقلني طبيبي إلى السطح المنفرد، كي أعرض جسدي للشمس. لم يطل بي الوقت أكثر من نصف ساعة مللت وبي قلق ويأس واكتئاب، تذكرت كل الأطباء الذين عرضت عليهم جسدي، منذ عشرين عاما، وقد قرفت من العلاج وضعت الروب على جسدي ومنشفتي فوق رأسي، حملت صحفي وتبغي ومائي، وصعدت إلى غرفتي، استعدادا لجولة من جولات العلاج المسائية.
وفي الطريق، طلبت مني مختصة العلاج للسيدات، المرأة العراقية التي لم أعرف اسمها بعد، طلبت مني الصحف، إذا كان ذلك ممكنا، لقراءتها ومن ثم أعادتها، ابتسمت وسألتها عن اسمها )ليلى(.  مع أنني موجود هنا من عدة أيام، ناولتها الصحف، ورددت قصيدة السياب الذائعة الصيت:
_ عيناك غابتا نخيل...
لم تدعني أكمل، أتمت أبيات القصيدة، أدرت لها ظهري، وصوتها يلاحقني تترنم بأبيات من السياب..
نمت بشكل عميق، بعد رحلة علاج طويلة ومملة، ولدي برنامج مسائي..
جهزت نفسي، وتغذيت... ثم هرولت إلى المغارة، وقد شاهدت في صالة الاستقبال، رجالا ونساء غير محجبات، وحمدت الله أنهم لن يكونوا كنساء الأمس في العراء، نائمات كاشفات لكل عابر، والبشر توزعوا اليوم في كل مكان حول الفندق والشلالات والمغارة وفي صالة الفندق، شئ غريب...
عرفت أننا في نهاية الأسبوع، ألقيت التحية على) ناصر(  مسرعا، فلم يعد لدي وقت كاف للبقاء في المغارة مدة طويلة استقر بي الحال بجانب رجل ملتح، التزمت الصمت، لئلا يطلب مني بدوره هذه المرة، فرك وركه أو ظهره أو تنظيف إبطي أو أظافري الممتلئة بالطين الأسود، وكان يلبس سرولا طويلا.
فجأة !
أطل)ناصر( بشنبه الضخم على غير العادة، ووقف بباب المغارة قائلا:
_ يا رجال...مالكم...
وصمت قليلا وقال:
ـ فيه أمهاتكم، أخواتكم ، ينتظرن من نصف ساعة...ما خلاص...!!
لبست ملابسي على عجل وخرجت، انقل خطواتي المتعبة، واهم الوصول إلى الفندق مبكرا، لعلي ارتاح، واحضر حفلة الليلة الغنائية، يقيمها الفندق لنـزلائه، مرة في نهاية كل أسبوع .لمدة ساعتين، وتستمر فقط حتى العشرة...
في بوابة الفندق . أبلغت البواب )يحي(  المميز بلبسه البدوي، ودلال قهوته المرة ليحجز لي مكانا مناسبا في الحفلة، وليوقظني في الوقت المناسب، وقفت انتظر المصعد مرهقا..
يقترب مني الرجل الأمريكي العجوز، زوج) السمكة(  البشرية، يمد لي يده، بدون مقدمات:
_كيف الهمة...؟!
رددت بذهول، وخوف وغرابة:
_ عال العال...؟!
ضغط كفي بقوة، شعرت أن أصابعي، تكاد تلتصق ببعضها، فانفضها أمامه بدون خجل بألم، ليطلق ضحكة مجلجلة...فقلت له بنفس روح المرح:
_ وأنت كيف الركب...؟!
ضحك وقال:
_ برضه عال العال...!!
صعدت إلى غرفتي، بادرت بنشر ملابسي المبتلة، في بلكونة تطل على المسبح، مددت نظراتي، لعلي أشاهد) السمكة(  البشرية كالعادة، رأيتها تتلوى طولا وعرضا، أغلقت الستارة...
تمددت اكثر من نصف ساعة، وبي قلق واكتئاب، لم تبدده قراءة الصحف، ومشاهدة الفضائيات، بحثت عن نظارتي، قلبت كل شئ ولم أجدها، أيقنت أني فقدتها وحلفت في نفسي أنها حلال...
تدحرجت بسرعة، مرة أخرى إلى المغارة، إذ ما زال الوقت مبكرا مخصصا للنساء....
استقبلني )ناصر(  مندهشا بسبب عودتي:
_ شوبيك يا زلمة. .ا؟
وسألني باستغراب:
ـ الليلة عندكم حفله في الفندق...‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍!
كان اليأس مسيطرا علي، ولوعة فقد نظارتي، وحاجتي الماسة لها في هذا المكان، تطغى على كل شيء، رددت عليه:
_ يا ناصر أنت رجل نائم...!
رأيته ممتعضا، وتذكرت زيارتي الصباحية:
_.في الخامسة صباحا رميتك بحجر وكنت ما زلت نائما فوق سطح دكانك...!؟
وقلت بحسرة:
ـ المهم فقدت نظارتي...؟‍ !
- لاهـ… لا هـ...!!
كنت منفعلا جدا لحاجتي الماسة للنظارة، وليأسي الذي صار يقينا، أني لن أجدها، لم أصر لماذا قلت له:
_ كلها مصائبك... !
وخجلت من نفسي:
_.أخرجتنا بسرعة من المغارة، ويبدو أني لحظتها، نسيت النظارة هناك...‍؟
فجاء الرد مواسيا وساخرا في آن:
_ البقية في حياتك، اليوم نهاية الأسبوع...
وحينما لاحظ حيرتي وألمي قال ضاحكا:
_.يوجد في المغارة أكثر من ثلاث مائه امرأة...
قلت له بحزم، وأنا أشير لبنت صغيرة:
_ ا سمع ابعث هذه البنت، لتبحث عنها... !
وأمام دكان الصغير عجائز، أمامهن منقل فحم، يحضرن عليه عشائهن، كغيرهن من البشر الذين يتناثرون، في كل مكان من وادي)ماعين( ولم أر )ناصر( إلا مستضيفا، أصدقاءه وأقرباءه، وربما كن هؤلاء العجائز، من أقربائه، أهمل باب دكانه، فدخلت دكانا، أضع عادة في ثلاجته، زجاجة مائي أفرغ واحدة في حلقي، سمعته يشرح للبنت، ذات العشر سنوات:
_ يا بنية...
وأشار إلي:
_.الأخ نسي نظارته عند باب المغارة، روحي دوري عليها...
ودفع البنت قائلا:
_.اسألي النسوان عنها...
صاحت به إحدى العجائز، اللاتي حول المنقل، تشوي وتدخن بشراهة:
_هيها... هي النظارة... !
ضحكت بفرح غير مصدق:
_ معقول... يا الهي... ؟!
ردت المرأة ذات الخطوط السوداء، في وجهها بهدوء:
_ هيها... هيها... تعال تقهوى... ؟
شجعني ناصر، قائلا:
_ هي خالتي... روح تعلل معهم وخذ نظارتك...
اقتربت من)أم نائف(، وهي تتكئ على جدار واطئ، تنفث دخان سيجارتها بلذة، تناولني نظارتي، تمد لي فنجان قهوتها المرة، أتناوله وأطلب من)ناصر(، يحضر لنا بشارة، خمس زجاجات مرطبات لثلاث عجائز وبنتين، إحداهما في السابعة عشر من العمر، رغم اعتراض أم نائف .
وقبل أن نفرغ من شرب المرطبات، كان الشباب الذين أتعامل معهم، في مرافق الفندق كل يوم، قد فوجئوا بوجودي في هذا الوقت المخصص للنساء . التفوا حولي كأني) شمشون(، اخذ كل منهم كرسيا، وبدءوا حوارا حول الانتخابات البلدية والعولمة والاستثمار في )ماعين( بفكاهة...
ارتفع صوت المؤذن، في المسجد القريب للعشاء، استأذنت، ولوحت للعجوز الأمينة)أم نائف(، اعتذرت لطلبها المشاركة في العشاء، أبديت لها رغبتي مازحا ، أني أريد العشاء في البيت، وأريد الزواج أيضا من واحدة من البنات، رحبت بي، وكان الشباب يضحكون بعدما عرفوا القصة، صليت العشاء، وصعدت جبل) ماعين( اللعين، بخطوات مثقلة، وقد حان موعد الحفلة الغنائية، ويبدوأن رغبتي في حضورها قد قلت أعداد هائلة من السيارات، أصوات عالية، وصراخ في وادي)ماعين(.
من داخل الفندق وخارجه، قلت في نفسي:)لماذا لا أحضر... ؟!( اكتشفت أن أعداد البشر خارج الحفلة .أكبر مما بداخلها أضعافا، لم يطل بي المقام، أصابني الصخب بالقرف وخرجت...
الناس هنا في الصالة، وباحة الفندق، وفي الوادي، وتحت الشلالات، وفي المغارة، نادرا ما تشاهد أحدًا هنا، يلبس أكثر من)شورت(، وخصوصا الرجال صعدت إلى غرفتي في الحال، بتعب واكتئاب يفوق الوصف، فقد تجاوز موعد ذهابي إلى سريري للنوم، حاولت جاهدا أن أنام، وكان واحدا من المستحيلات أتقلب يمينا ويسارا، أضع وسادة فوق رأسي، أطفئ جميع الأضواء بما فيها ضوء التلفزيون، وقد اعتدت، إبقاءه مفتوحا، ليؤنس وحدتي.
أسدلت الستائر، اكتشفت أن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، ومرت اكثر من ثلاث ساعات، على موعد نومي ولا فائدة. بي حالة قلق غير عادي، وقفت بالنافذة، أطل من بلكونة غرفتي في وادي)ماعين(. يا الهي الحياة على غير العادة، صاخبة أنوار ونار تنبعث من كل مكان، فهل تغيرت أحوال المرضى هنا... ؟!
هل يخرج جن من عمق الوادي… ؟!  
أسئلة عديدة لم أجد لها جوابا.
استدركت بأن الليلة جمعة، وتذكرت أفواج السيارات القادمة، من كل مكان، المليئة بالبشر، ولابد أنهم يقيمون حفلاتهم، نكاية بإدارة الفندق، لغلاء أسعاره، لبست لباسي الوحيد حتى الآن، وقد عصاني النوم، وخرجت متدحرجا إلى عمق الوادي، كانت صالة الفندق منطفئة، وحلقات عديدة مضيئة خارجه، تنبعث منها أصوات مختلفة، كلهم يغنون، ويرقصون، ويدبكون، ويعرضون... كل يغني ليلاه، احترت إلى أي مجموعة سأنضم...؟!
ولأن الفوضى بكل ما تعني الكلمة، أدرت لهم ظهري جميعا، وعدت إلى غرفتي، طلبت من المناوب ألا يوقظني، كالعادة في الخامسة صباحا، نمت نوما عميقا، صحوت منه في التاسعة، ولبست على عجل عدة غرفة)التطين(.  شاهدني)أبو عبدة(، وزم شفتيه:
_ ذنبك على جنبك... شوبدي أسوي يا عمي... ؟!
أخذت الصحيفة الوحيدة، أنتظر دوري، العدد كبير، إلى جواري ثلاثة شبان، جاءوا من القدس، يشاكسون)ليلى( العراقية، مختصة علاج السيدات، يدعونها )أم جاسم(، ويتبادلون نكاتا مغرقة في الابتذال، ويهزؤون من صدام...
وما أن يضحكوا من نكتة، حتى يصبح الآخر جاهزا بنكتة أخرى، رأيت آخرين ينسحبون لئلا يشاركونهم الضحك، وقد حولوا صالة الانتظار إلى فوضى والغريب أن سكان القدس، وبعض عرب الأرض المحتلة، هم أكثر الناس صرفا وبذخا.

20

جاء دوري بعد انتظار..
دحجني) أبو عبده( بنظرة، فهمت منها، أن علي أن أدخل إلى غرفة التطين، لبسني الطين وخرج، أدخلت إبهامي في بلاستيك، يلف به جسدي كلما فرغ من تطيني، لأبقى ثابتا في مكاني، دون أن أتزحلق إلى أسفل، قرأت آيات قرآنية، وتوجست بقصائد نكد، ولم أبك طبعا كما طلب مني)أبو عبده( ساخرا في كل مرة، انتظرت نصف ساعة في الطين، الزمن الذي حدده لي، ولم يأت ليخرجني، من هذا الجحيم، ظننته نسي، فالعدد اليوم كبير، والناس يملأون المسابح، والبرك المائية المجاورة، لغرفة)التطين( .
لم أعد أطيق البقاء، مغموسا جسدي في الطين، عيناي وحدهما، اللتان مسموح لهما بالحركة، تتحركان في محجريهما، دون أن أجرؤ على فتح جفني .يئست من مجيء) أبو عبدة(، ليخرجني من هذا الطين، الذي دسني فيه، فتزحلقت من السرير، ووقفت بباب الغرفة...
تمنيت لو كان في الغرفة مرايا، لأشاهد قامتي الجديدة بالطين، سمعت أصوات المرضى حول البرك، وفي ممرات المسابح المجاورة لغرفتي ، خشيت الخروج بهذه الحال، أعبر إلى غرفة الغسيل . فقد حذروني في مرات سابقة، لئلا أسقط نفسي في المسبح بالطين، ولئلا أفجع المرضى الآخرين ، الذين ليس لهم علاج بالطين مثلي، فكرت في الوقوف بالبلكونة القريبة من غرفة)التطين(، لأشاهد الناس، في مدخل الفندق، وليشاهدوني كما يحلو لهم، ظللت لدقائق واقفا، انتظر وصول)أبو عبدة( ليساعدني، كي اغتسل من هذا الطين وأخرج، ولم يأت، فعلت ما حذروني منه، لففت منشفة على وسطي فوق الطين وخرجت إلى غرفة الغسيل، اغتسلت، ونظفت جسدي من الطين، وفي الطريق، سلمت على الرجل الأمريكي، العجوز مفتول العضلات، حاول يشاكسني كالعادة، فلم استجب لمداعباته..
ولم أدر لماذا ؟..
رأيته البارحة، يرقص في الحفلة التي نظمها الفندق لنـزلائه، بينما كانت زوجته )السمكة( البشرية خامدة، رفضت محاولات جلسائها على الطاولة، لجعلها تهز طولها وسط الحفلة، وبدأت منقبضة، تكثر من تدخين سجائرها، وبقرب هذا العجوز الذي أتعبته ركبه، يتداوى في النهار، ويرقص الليل شاب فلسطيني من القدس، يعاني جلطة في الدماغ سببت له شللا، ترافقه والدته الخجولة، وهم جيراني في الغرفة المقابلة، توصيني دائما به، كي أهتم به، في الأماكن التي لا تستطيع البقاء فيها، في وسط رجالي، ولباس غير محتشم، يرفض مساعدتي له بعناد، لم أجد له مبررا، كان القرف مسيطرا علي، ولم أحتمل مداعبات ومشاغبات، ونكات الرجل الأمريكي العجوز، أومأت للشاب وقد حان وقت صلاة الجمعة، ولابد أن أتهيأ بسرعة، فخرجت..
وحول المسجد، كان العدد كبيرا.  وفي الداخل، كان عدد المصلين قليلا وبعد الصلاة وقبلها، احتفالات يبدو أنها من بقية ليلة البارحة، وحول بركة المغارة حشد بشري، جاءوا من القدس، ومن عمان، والرياض، ومسقط، والكويت ومن أماكن متفرقة، في الوطن العربي، كلهم ينشدون العلاج، وربما للسياحة، ففي )ماعين(  لا شيء، غير هذا الماء الحار، يتدفق من جبال جرداء، ولاشيء يغري بالبقاء أبداً...
وبعد الصلاة، كانت حالتي النفسية رديئة جدا، لم أسمع طويلا كلام )أبو حسن(، مؤذن المسجد يحاول دفعي، لإقناع) ناصر(  ليصلي، وكان منكبا في دكانه، يباشر طلبات الذين، وفدوا هذا اليوم، لذا دخلت فورا إلى المغارة، وتناسيت رغبتي وحبي، للضجيج والحركة والكلام.
حالتي أصبحت غير مشجعة، للاستمرار في العلاج، ولا أظن أنني سأبقى هنا شهرا، كما يريد طبيبي، الذي لا يقل انفعالا عني، ونفسيتي تزداد سوءا، وقد أخبرني)أبو عبدة( بهذا، حينما لاحظ امتعاضي، وتذمري وسألني:
_ )شوبك يا زلمة... ؟(
وربما يؤنبني، إذا اكتشف، ولابد أنه عرف أني انسحبت اليوم، من غرفة )التطين(، من غير أن يخرجني لكن هيهات...‍‍‍‍!!
لقد مللت، بما فيه الكفاية، ولي أسبابي، الروح والجسد متلازمان في الفرح والشقاء .فهذا العجوز، يرقص في الليل، وفي النهار يدلك ركبته المتعبة، وزوجته)السمكة( البشرية، تقضي نهارا بكامله، تعوم في مسابح )ماعين(، وإذا جاء الليل، اختفت أو بقيت وحيدة منقبضة، لا شيء يعنيها مما يحدث حولها، وليس أمامي سوى حقائب السفر تنتظر استعادة حيويتها ولابد من الخروج .
وكان أيضا لا بد من لقاء الفرنسي)جيم(، قبل المرور على)شيك آوت( رتبت في ذهني أسئلة، عن العلاج، والأسر، والأطفال، والسياحة والاستثمار، والفقر، وخرجت من مكتبه، بعد أن رتب لي موظف الاستقبال((شيك آوت))…، وحجز لي سيارة، تنقلني إلى عمان، عبر منعرجات، وطرق جبلية، أقسى من تلك التي مضيتها، في طفولتي الجنوبية، قال سائقي ونحن نصعد جبال)ماعين(، مغادرا:
_ هيه... هيه، أنوار القدس... هيه بحيرة طبريا... !!‍‍
لم أكن أود أن يثيرني أكثر، تذكرت أن شيخي، حرم علي تراب.  )البحر الميت(، يعني الطين، الذي يغرسني فيه)أبو عبدة(، صباحا ومساء. ومرورا به خفافا، عمان لم تعد تستوعبني، نسيت كل شئ، ويتحدثون عن حي)الصويفية(، وقد أتعبني فيه جبال، ومكتبة المستقبل التي لم تفتح، والثراء، وبنت ضائعة لم تدفع الحساب..
وإبراهيم والأجنحة الذهبية..
والطفل الليبي المريض..
و)أساطير جارودي(، التي لم تأت.
عمان لا تشبه كل المدن، لكن من الناس، يمكن أن تبني عليه الثبات، حاولت الحصول على رحلة هذه الليلة إلى الرياض، باءت محاولاتي بالفشل، ولم يكن بالأمر الهين، وليس كل أمنية ممكنة، وجدتني أخرج من عمان بعد منتصف الليل فجأة ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍؟، وعبر منفذي)نصيف – جابر( في الرابعة صباحا..
لم يرد سائقي )أبو عامر(  الفلسطيني، أن ندخل إلى عاصمة الأمويين، كما دخل صديقي)إياد(، وليس ابني .
لا إله إلا الله..
وحده لا شريك له..
له الملك وله الحمد..
يحي ويميت..
وهو الحي الذي لا يموت..
وهو على كل شئ قدير..
وفي دمشق، تبدو أنوارها الآن أمامي مشعة، تتثاءب بعد ليلة مليئة بالفرح والسرور، وحي زمان)أبو رمانة(، والزبداني، والورود، ، وأطباء الأسنان، والحميدية ، والسوق السوداء والكتب والحكايات.
أمامي ليلتان أقضيهما في دمشق، وهما بالتأكيد لا تكفيان..
فماذا أفعل ؟!
الأولى بعيدا عن سريري وشقتي، وحقائب سفري وكتبي الجديدة، وحي)العباسين( بكامله، وشغالتي الشابة، أم الحكايات)جوليا(، قضيتها مع دموع القهر، في مخيم فلسطين، على الشموع حتى الصباح...
ورددت تلك الليلة كثيرا، ودمع لا يكفكف يا دمشق... !
ثلاث ليال لم أنم بعد. وسأذهب)إلى الرياض( غدا على سهر، بذات اللعبة سأختم بالليلة الأخيرة، فكم من المؤجلات تنتظرني، فحيث يقبع فلاسفة الفكر والإيمان، هناك صديقي التونسي)ضليل(، وجد وهوى) أبن عربي(، في جامع الأربعين، وجبل قاسيون، حيث قتل قابيل هابيل، وبلهجة شامية، حدثني ضليل:
_ هاكا... هذا سيدي جبرائيل يرفع الصخرة..
وسألني:
ـ ألم يبارك الله في شامها ويمنها)؟‍! (
وبعد صلاة العشاء، كنت أبحث عن حبل)خيط(، أشد به وثائق حقائبي الثقيلة في شارع ضيق، وفي حي )العباسين( . وقد اصطفت على جانبيه دكاكين عتيقة، وشاب ذو قامة فارهة وذو ضفائر وذقن حمراء، وأسنان ناصعة البياض فتح عددا من أدراج دكان المفاتيح الصغيرة، ليبحث عن هذا )الخيط( الذي سيلم حقائب سفري مع بعضها… فلم يجدها في البدء، ويقيني أن هذا  )الهيبي( ، الذي يصر على إعطائي هذا )الخيط(، يبحث في فراغ، خرجت إلى دكان آخر، وصوته يلاحقني، ليستدرجني في الكلام:
_ الأخ سوداني . ؟!
لم أجب، فقد استهوتني اللعبة معه، فجسدي شوته شمس ومياه) ماعين( وصار داكنا، وبدلتي )الرياضية( السوداء لم تتغير، فقط يوم واحد لبست فيه الثوب في صلاة الجمعة، وقد صرت على عتبة باب دكانه خارجا فقلت:
_ نعم...!
انتقلت إلى دكاكين أخرى في الشارع، الضيق، أبحث عن حبل أشد به حقائب سفري، وسمعته يضيف:
_ سأجده فورا أول ما تخرج... أنت من شمال السودان أم من جنوبه... ؟!
كنت قد انتقلت، في أكثر من دكان، من الدكاكين الصغيرة العتيقة، أسأل إن كان فيها خيط، لأحزم به حقائب سفري، ظل الشاب يبحث، في دكانه الصغير عن هذا الخيط، وبعد خروجي بلحظات، وجد الخيط )المزعوم(، لينطلق في أثري صائحاً، والخيط في يده:
_ يا أخ... يا أخ... !
التفت، أراه قادما إلي بهامته الفارهة، وأسنانه الناصعة البياض، وشعره الأحمر الطويل، دون مقدمات، قبلته وأخذت منه الخيط، قال:
_ قلت لك سأجده .. سأجده..!
أخذني معه، إلى دكانه الصغير، الذي صار يبعد أكثر من عشرة أمتار، وعدة دكاكين، وفي دكانه الصغير، في ذات اللحظة، قدم لنا أحدهم، زجاجة مرطبات باردة، فحاولت الاعتذار، لكن الشاب كانت ابتسامته، تغري أكثر، قال:
_ هذا نصيبك يا أخي... !
كان الشاب الذي أحضر لنا، زجاجة المرطبات، يطلب صرف (1000) ليرة فأخرجت له المبلغ من داخل بدلتي)السوداء(، وصرفت له، ورأيت الشاب تتسع ابتسامته بدهشة:
_ لقد رأيتك أمس تتسوق هنا، في بدلتك السوداء هذه، وظننت أنك أخ سوداني، فلماذا تتنكر... ؟
أيقنت في نفسي أن هذا الشاب ذا الشعر والذقن الحمراء، والأسنان الناصعة البياض، والقامة الفارهة، مد لي الآن سهرة الليلة الأخيرة، لنقضيه معاً.
وفي أول الليل قلت له:)هذه قصة رحلتي... (، ضحكنا معا، فلست وحدك، )أبو حسن(، مؤذن مسجد )ماعين(، حيث كنت أتطين في )البحر الميت( وحيث نهاني عنه الشيخ لنجاسته، لبست ثوبا لمرة واحدة لأصلي فيه، وطلب مني )أبو حسن(  أن أصلي بالمصلين... وحدثته عن)باسم( دلال العقار حينما سألني:)أنت صعيدي – سوداني – ليبي  – يماني ؟!( .
ورجل عراقي اشتري منه أربعة أزواج من الأحذية، كان يبيعها بجوار مسجد الفاروق، ارتعشت يدي في يديه، وأنا أهمس في أذنه: )أعرف بغداد الجميلة، عشت فيها ثلاثة وستين يوما … كل يوم في ثوب… !!(. ووضعت في يديه)دنانير( أردنية بقيت معي، حلف بالطلاق حتى يعيشني في بيت إحدى زوجتيه، وطبيب جراح لبناني راهنني على شراء حقيبة سفر، بنفس السعر الذي اشترى به قائلا:  )يا عم… أنتم ما بتهتموا بالتفاصيل… بتاخذوا بدون تفاصيل(، وكذلك فعل معي سائق )درزي(، بادرني بقصة، ذاق فيها شقيقه المدرس في اليمن، مرارة الغربة، ومعاناة عدم تقبله هناك بسهولة، اضطررت أن أنسج له قصة وهمية، لحفار آبار في قريتي )المزعومة(، بعد أن ميزت صلابة لكنته، قلت عاش في نفس المعاناة وعدم الثقة، في الغريب بسبب النساء، ولم يكن حفار الآبار، غير مقاول بنى لي فيلتي في )الرياض(، تمدد الشاب، وضحك حتى بانت أسنانه الناصعة البياض ، وقال:
_ قبل أن نربط حقائب سفرك بهذا)الخيط(( الذي جمعنا...
وابتسم، لتبدوا أسنانه اللامعة البياض، وبلطف قال:
ـ دعنا نصلي صلاة العشاء .
وأدخل يده في جيبه وناولني:
ـ هاك هذا الخاتم الذهبي بشارة...فهو لك...)؟! (
وحكي لي قصة أشبه بالخيال، قبل أن يجد هذا الخاتم في طريقة. لم أكن نمت في شقتي، ولم أكن أطيق البقاء فيها، بل أن كل شيء مقرف هنا، كرهت البقاء في الشقة، ولم أعد أطيق البقاء بها، حاولت أن أغفو مرات على الكنبة، منذ الساعات الأولى لمجيئي، وها أنا ومنذ ثلاثة أيام، لم أرتح في نومة مريحة، كهذا التلفون الذي لم يهدأ، سألت نفسي، وقد حدثت المفاجأة)!!( ماذا أفعل... ؟!
لم أجد غير حقيبة السفر، لكي أستخرج منه شرشفا أفردته للصلاة، ومضت ليلة جميلة، ليخرج الشاب للصلاة، وظللت في شقتي ينازعني التعب والنوم والحيرة، فكرت في البقاء أياما أخرى، ذهبت في حلم، أستعيد قصة أولئك الذين جاذبوا )إياد( الكلام، بلغة فرنسية، وبسخرية يهزؤون من سرواله الأسود، يسبح في ماء)البحر الميت(، وكان يفهم لغته، تخصص في آدابها، ويرفع لهم إشارة النصر فجأة)!!(. سألني:
_ ألست بين أولئك الرجال الأربعة، ألست أنت الذي صحت فيَّ فرحاً:
_ )أحد... أحد(. ؟
هززت رأسي في الحلم نافيا، لم أصل)للبحر الميت( من قبل، ولم أرك، كنت قد تهاويت مكاني وذهبت في نوم عميق، أيقظني منه قبل موعد رحلتي بوقت قليل ضربات عنيفة على الباب التفت إلى جاري في المقعد المجاور، بين الأرض والسماء، سحاب أبيض تحتي، لا يحجب قراءة تضاريس وجه الأرض وسألني:
_ هل تعرف اسم قائد الطائرة...)؟!(.
لم أجب، ولم أعلق، فقد صار خلفي، ونحن معا في مقاعد المدخنين الفارغة، سمعته يتذمر:
ـ)لبو زواج من بلد... ما يؤخر إلا مشاكل ووجع رأس... !(، عرفت هنا، أننا ندخل أجواء، أشد حرارة، وسخونة .