بحث في الموقع

 سؤالٌ عتيدٌ، يواجهني في كل أسئلة ثقافية، تأتيني عن القصة القصيرة، وأعترف بأنها جنس أدبي، حساس وخطير ومراوغ، ويعتمد على التكثيف اللغوي والإشارة السريعة، ولست من كتابها البارزين، ولكن هذا الجنس الأدبي الأثير الذي أحببته، وكنت من كتابه في مطلع حياتي الكتابية، كان سائداً ومزدهراً في تلك المرحلة،

وينافس حضوره الجنس الأدبي الآخر، الشعر الجنس الأدبي الأكثر حضوراً، وانتشار في الذائقة العربية، فكان الشعر والقصة القصيرة، هما سيدا الحضور والتوهج في بداية النصف الميلادي الثاني من القرن الماضي.

الشعر الفن الأثير، دائم الحضور في كل العصور، لكن القصة القصيرة التي حضرت كجنس أدبي منافس له، لا بد أن هناك أسباباً فرضت حضورها المحلي، وشكلت من أسماء كتابها الأوائل رواداً وهم معرفون بيننا، بعضهم رحل إلى رحمة الله والبعض ما زال وفياً لهذا الجنس الأدبي يواصل كتابتها، وتوقف بعضهم ويتابع الآن كُتابها من الأجيال الكتابية الجديدة، ورحل البعض إلى كتابة جنس أكثر شمولية، أعني بها جنس الرواية، ويدخل في نسيجها كل الفنون من شعر، وقصة قصيرة، وفلكلور، وأساطير وكل المعارف، وكنت مع الطيور المهاجرة التي رحلت صوب ميدان الرواية، وأجد كثيرا من المبررات الذاتية والفنية لهذا الرحيل، تتناسب مع طبيعة الفن الروائي ومقتضياته، إضافة للمتغيرات التي سمحت بسيادة هذا الجنس الأدبي، وأصبحت الرواية تعدُ في أعراف بعض المتابعين الآن، هي ديوان العرب الجديد..

ويظل السؤال ممتداً، لماذا حضرت القصة القصيرة في مرحلة ما، وما هي أسباب ومقومات وجودها في تلك المرحلة بكثافة، ولماذا انحسر تداولها لتقفز فنون أخرى إلى الواجهة؟

قبل قراءة معطى السؤال، لا بد أن نقف على مقولة (تداول الفنون الحضور) السائدة، بمعنى أن كل فن يحضر متى اتيح له الحضور، ليزدهر وينتشر تداوله قراءة وكتابة، فنحن لا نستطيع أن نجعل من فن السينما، والمسرح فنوناً مزدهرة في بلادنا، لأن هناك عوائق مجتمعية، تمنع حضورهما مع ان حضورهما، يرتبط بحضور فن الرواية كجنس أدبي، معني بكشف المستور في مجتمع محافظ ومتشدد، يتوجس خيفة من كل نقد وتعرية لأخطائه، ولا يسمح بتداول الرأي والرأي الآخر، ولذلك حضرت سيادة جنس الشعر، وقيل إنه لا بد أن يحضر لأنه سيد الفنون، وحضرت القصة القصيرة إلى جانبه في تلك المرحلة، كفن يلتمس كثيرا من خصائص الشعر، وتتكئ على الإشارة بلغة مكثفة، وتقود إلى لحظة التنوير.

تنوعت طرائق القصة القصيرة في تلك المرحلة، وازدهرت ولعبت دوراً ثقافياً تنويراً، وأجد بين يدي إحدى ثمرات تلك المرحلة، دراسة فنية للباحثة الأستاذة اسماء الأحمدي، وهي إحدى الباحثات الأكاديميات الجادات، اللواتي يبشرن بفرز السرد الكتابي، ودراسة أسماء الأحمدي لنصوص المرحلة، لم يكن من بينها نصوصي من (البديل) أو (قالت فجرها) وتلك مسألة أخرى، لكنها قبضت في نظري على اهم ملمح كتابي، وأحسنت تسميتها ووصفها بـ (ظاهرة الرحيل – في القصة القصيرة السعودية)، وترتبط ظاهرة الرحيل، بأنماط وظواهر أخرى عديدة ومتنوعة، أكثر من ان نحصيها ونُعددها، ويظلُ الأمل يوماً أن يأتي، وهم حتماً سيأتون بإرادة الله، جيل يعني بفرز هذا المنتج، ودراسة الظواهر الأخرى في القصة وفي كل الفنون.

والفن القصصي، تقول اسماء في دراستها القيمة: (يعبرُ عن آلام الإنسان، وآماله، وانتظاره ورحيله، ومن ثم فقد شكل الرحيلُ ظاهرة بارزة في القصة السعودية الحديثة منذّ نشأتها، إذ عالجت موضوع الرحيل بأدواتها التقليدية، وقد تطور الرحيل في القصة القصيرة السعودية بتطور هذه الأدوات، فكلما استجاب بناؤها الفني والمضموني لعوامل التغير، والتجديد تبعته ظاهرة الرحيل، وبرزت فيها هي الأخرى بملامح فنية، مستحدثة تواكب التغيرات الفنية، والعقدية التي تستوعبها القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية.

وتتضح ظاهرة الرحيل جلّية، نلمسها من خلال القصة القصيرة السعودية، لأن القاص يقوم بتوظيفها على مستويات مختلفة منها استخدام المنلوج الداخلي، فيتغلغل القاص داخل الشخصية القصصية، ليكتشف صوراً لواقعها الباطني، وإحساساتها، ومشاعرها التي تختلج في جنباتها، ذلك أن بعض الشخصيات القصصية، لا تستطيع البوح بما في داخلها، فيلجأ الكاتب إلى منلوج داخلي، ليكشف عن مشاعرها الذاتية، وأفكارها وعذاباتها وطموحاتها، والمنلوج يأتي دوماً جزءاً مكملاً للحدث العادي، ليرسم صورة عامة لنموذج الشخصية) ص 15

ويتضح هنا – أن الباحثة الأستاذة أسماء الأحمدي، تتحدث عن نصوص تنتمي إلى تيار الوعي، باستحضار المنلوج، وتحليله كخطاب يصدر عن الذات الباطني، والدراسة تناولت النصوص عبر أربعة فصول، وكل فصل يشخصُ أربعة أبحاث، فالفصل الأول يعني بظاهرة الرحيل. والتشكيلات اللغوية، ويبحث في اللغة النمطية، واللغة الإيحائية، واللغة التكثيفية، واللغة الرمزية، ويتناول الفصل الثاني ظاهرة الرحيل، وتشكيل الشخصية، ويبحث في السرد، والحوار، وتيار الوعي، والوصف، ويتناول الفصل الثالث ظاهرة الرحيل، وتشكيل الحدث، ويبحث في الحدث الواقعي، والحدث الرمزي، والحدث الحلمي، ويتناول الفصل الرابع ظاهرة الرحيل في الزمان والمكان .

ظاهرة الرحيل في إحدى مستوياتها تعني بالمكان، فالقصة لا تنفصل آمالها، وأفراحها، وأحزانها، وهواجسها، وعوالمها الذاتية عن الحيز المكاني الذي تنتمي إليه، فكتاب القصة الذين غادروا أماكنهم الأولى من القرى والمدن المتنوعة في أطراف الوطن، وواجهوا حياة جديدة وظروف مؤثرة على واقعهم الجديد، وواجهوا العديد من الظواهر منها صدمة المدينة، والحرمان، والغربة، والظلم، والعدمية، والضياع، والشقاء، والخوف، والحزن، والفرح، والتباينات المجتمعية، وعشرات الظواهر التي عنيت بها القصة القصيرة في تلكـ المرحلة، وازدهرت فيها كجنس ادبي مهم، تؤدي دوراً تنويراً، وتشير الباحثة إلى : ( تلكـ الأمكنة الحقيقية الموضوعية، التي يتمُ وصفها عبر عدد من التسميات المألوفة، أو الخصائص المميزة لها، وهي الأمكنة التي وجدت في الواقع قبل وجودها على صفحات العمل القصصي، سواء أكانت الأحداث في الزمن الماضي أو الحاضر، فهي على الورق أمكنة لفظية، تشكلت بفعل اللغة، بمعنى أنها غير واقعية وغير حقيقية، وإنما تحيل إلى مرجعية فعلية قائمة على أرض الواقع ) . ص 291

ونذكرُ ان كتُاب القصة القصيرة في تلك المرحلة، تنوعت خطابات نصوصهم القصصية، كانوا يمثلون بيئات وثقافات متنوعة، وقيم مجتمعية وعادات متنوعة، عكست كل الأمكنة المتخيلة في الوطن في قراه ومدنه، وجاءت نصوص تلكـ المرحلة ثرية بالشجن، وغنية بما تحمل من حنين لتلكـ الأمكنة، لأن القاص لا بد أن يعي البيئة وعياً تاماً، فيتبين له مدى تفاعل شخصية النص مع بيئة من البيئات أو طبقة من الطبقات المجتمعية، فأتخذ منها الكتُاب متنفساً للمضي نحو الماضي، واستلهام جمالياتها للمستقبل والتشبث بخطوط قد تشكل أملاً لبلوغ الأحلام .

ولا بد قبل أن أنهي سطوري عن القصة القصيرة، أعرج على ما وصف به الناقد الدكتور معجب العدواني (ق ق ج) القصة القصيرة جداً، إذا قدم وصفاً مناسباً جداً في نظري، مجتزأ من التقنية المعاصرة، إذ أطلق علي هذا الجنس الأدبي الوليد، مسمى القصة (التويترية) ليعطي لها مدلولاً حديثاً، يناسب مرحلتها صعودها وحضورها، وقد يحتج البعض ويرفض هذا التوصيف، ويعتبر هذا الجنس الأدبي له خصوصيته المرحلية، ويستحسن ان يظل موجوداً قبل التوتير، ومسماها (ق ق ج ) أولى بها، ونسي هؤلاء أن الوصف، جاء من التكثيف اللغوي الشديد، واختزال زمن الحدث، وربما عدم العناية به، وأرى أن كثيراً مما يكتب في تويتر، يحمل هذا التصنيف الشكلي، وإذا حمل وصف الدكتور معجب نقداً لهذا الجنس الكتابي، فلا شك أن هناكـ كتاباً كباراً لهذا الجنس الكتابي، نعرفهم بالاسم لا يندرجون ضمن السواد الأعظم، ممن وجدوا في كتابة هذا الجنس الأدبي الرشيق، فرصة ليسجلوا حضورهم الباهت.

** ** **

وجوه

للشاعر : محمد خضر

صعبٌ أن أشرح لهُ كل هذه الأعوام فى عجالة على باب مكتب العقار . .

وليسَ من حقى بتاتاً . .

أن أقنعهُ بأنها سنوات مهمة

وأنها أورثتنى شخصاً بوسعهِ أن يلغى أى اتفاق فى لحظة !

وكما يحدثُ فى فلم سينمائي

أطيّر الأوراق عاليا . .

تتناثر فى الفضاء

وعلى الاسفلت

وريثما يحددُ المخرجُ الزاوية المثلى للعرض .. يكون قد قرر أننى شخص

غاضب وأشعر بالحنق . .

وهذا ليس صحيحاً فى أغلب الأحوال.

------------------------------------

المصدر: صحيفة الجزيرة