بحث في الموقع

يعرف المشهد الثقافي عبدالله نور مثقفاً متنوع المعرفة، ويُعرف ولعه بالشعر، وباعه في دفع عجلة شعراء الحداثة، فلا يستغرب إذا وجد شيئاً في نصوصهم من رائحة عبدالله نور، ولا يمكن حصر تأثيره في جيل مبدع محدد، المبدع الذي تشربت شرايينه أسرار مدينة الرياض، قصورها وشوارعها الخلفية وأرصفتها، كان ذاكرة المدينة الجبارة التي لم تكتب.
كان يجيب عن صخب محبيه، ويدعي أنها مخطوطة روائية (وجه بين حذاءين)، ويعرف البعض أنها شطر بيت قصيدة لصديقه الصعلوك الذي رحل قبله بأيام الشاعر الكبير محمد الماغوط، فهل دفنها عبدالله نور أم دفنته، أم تدفنه الساحة الثقافية بموته؟ أنا لا أعرف إلا أنها مسؤولية كبيرة على القريبين منه وهم معروفون بإخراج أثر عبدالله نور الأدبي والفكري، فلا نركن إلى تدبيج المقالات البكائية وقصائد الحزن، عبدالله نور ذاكرة فريدة، وطاقة مبدعة.. فتعالوا نرَ صورته بين أجيال كتاب الرواية...
مرحلة بعيدة تلك التي يأخذنا إليها شيخ الرواية إبراهيم الناصر الحميدان، ونور أحد شخوص رواية (الغجرية والثعبان): (هنا دخل الدسم وعلى وجهه آثار الإرهاق، فسلم وقعد وعيناه تومضان يتوجس.. فأراد منور تعزيته قائلاً: يعني عملكم كله خطر في خطر، فتنهد الدسم مجيباً: أنتم تنامون الليل مرتاحين ونحن تتغشانا الكوابيس، فقال عامر مشجعاً: ولكنكم تمثلون الرأي العام.. يعني الشعب كله، فرفع الدسم يده باستهانة قائلاً: الشعب اللاهي والمشغول في لعب الورق، فتدخل منور: مسؤوليتكم أن تعلموه وتثقفوه وإلا لا، فما فائدة الصحافة..؟)، مقطع رواية صاخبة بروح الشباب والخوف والأسئلة والحوار، يشكل نور أحد شخوصها البارزة صادرة عن دار الهلال.
والغريب أن هذه الرواية مأزومة بأسئلة الشباب، فكان حضور عبدالله نور طبيعياً، كما لم يحضر في نصر آخر للحميدان، لأن فضاء الرواية يناسب شغبه وأسئلته..
ويحضر في رواية (الإرهابي) في مرحلة تالية بسنوات بعيدة ما يعني قربه من حرارة الإبداع وتشكل الحرف، لينفجر به عبدالله ثابت بكل هذا الزخم: (كان الأب الأكبر لجيل الحداثيين القدامى شعراء ونقاداً وروائيين ومفكرين، لكنه لم ينصف نفسه، ولم ينصفه الآخرون، لم ينصف نفسه بهروبه الدائم المتكرر من الأضواء والإعلام، ولم ينصفه الآخرون إذ مر أكثرهم من تحت يده ثم نسيها، بل هاجموه كثيراً واتهموه بمكانته وحظوته عند البعض من رموز الدولة، وشككوا في مصداقيته على الرغم مما يعرفونه عن سجنه المتكرر والقضايا التي ألصقت به مراراً، ولفرط مزجيته وامتلائه بنفسه ولم يكن ليأبه بشيء من هذا! في الرابعة والسبعين من عمره أسمر طويل القامة، روحه كلها جمال وميل للمرح والحب والموسيقى، يتحدث عن الشعر وجمالياته، ويتفنن في إلقائه وتنغيمه.. سألته تلك الليلة عن اختلال مفهوم الحداثة في أذهان أبنائها وممثليها والمدعين بأنهم رموزها، ومما علمنيه أنه لا حقيقية بهذه الحياة، وأن الإنسان هو من ابتكر كل هذه المآزق التي يعيشها؛ فهو من ابتكر قصص الخوف، وهو من أكره من في الأرض على مخترعاته الهلامية، ثم قتل كل من لم يقل له (معك)، تعلمت منه كيف للمرء أن يتناول الكلام الجميل وكيف يصممه ويفسره، وكيف يمكننا التعرف على أصول الكلمات والحروف..
وانفجر كبوابات سد ضخم يمسرح قصيدة للشاعر الفلسطيني فواز عيد المعروفة، صفق الراقص.. فاصطفت على الجنيين جدران ونخل ويدان، واستدار الليل خوصاً ووجوها تتلوى، دان.. دان!!
حان الوقت ليرحل (ع. ن) يعود من حيث آتى، ولا أدري إذا كنت سأراه ويبدو أن الموت إليه أقرب، فمددت إليه بورقة وأدرت ظهري فقال: (توقف.. سنقرؤها معاً) فتوقفت:
يحدثني عن جنون الزوايا، ورعب القناديل، والأنبياء!
وعن أرق النأي والشعر والمقبرة
وعن قلق المؤمنين اليتامى، وعشتار والصاد.. والأمكنة
وعن جذري - الماء، تحيا على ميمه فلسفات الحرف
وآذار كيف اصطفانا عيالا، وأيلول يعصف بالسوسنات
وعن موعد العطر يوما يجيء، نيسان يهمي اختيالا
وأوديب سيدنا والخطيئة
وعن قدر الله في خلقنا، وتكوير أيامنا في النساء
وعن قطه الأسود المتخفي، ينام..
ويوقظه الفن شرا جمالا عزيزا رجيما!)
رحم الله عبدالله نور، زوايا متعددة ومتنوعة يمكن أن نرى الراحل الكبير منها، لقد ترك أثره في الأجيال، وكان شمعة معرفية وجمالية في ظلام كالح.