حوار- عبدالله الزماي
اعتبر الروائي «أحمد الدويحي» أنّ استبطان الشخوص المتنوعة وكشف مخبوئها فعل روائي مهم، ولا يمكن لروائي أن ينجز شيئاً مهماً بدون أن يعمد إليه، سواء ب»المونولوج» الداخلي أو بغيره، منوهاً بأنّ النص لا يكتمل إلا بقارئ متلق، يكمل أفق التجربة بأفق آخر للتوقع والتأويل. كان ذلك إثر لقاء أجرته «الرياض» معه حول روايته «منابت العشق»، الصادرة عن دار الانتشار العربي.. وفيما يلي نص الحوار:


الهوية السردية

* قد يلتبس على قارئ الرواية نوعية السارد بين سارد شخصية أو سارد عليم من خارج الشخصيات، كيف تفسر هذا الالتباس الذي قد يرد في ذهن القارئ؟

- سؤال في مكانه، إذ تتلمس في سؤالك التشخيصي عن الشخصيات، دعني أوضح ما يسمى ب»الهوية السردية» بمعنى تحرير الذات الفردية، وتفتحها على أفق المجتمع والتاريخ والآخر، والتوغل نحو أعماق الذات التي تتحقق بالسرد، والهوية السردية ليست فهماً ثابتاً لا يتحرك، ولكنها تفاعل وجدلية مستمرة، تتجدد مع الكاتب ذاته أو عبر أجيال سردية، وحيث إنّ النص لا يكتمل إلا بقارئ متلق، يكمل أفق التجربة بأفق آخر للتوقع والتأويل، وهنا جاء السؤال ليتم تحرر النص من الانغلاق على الذات، وحتماً لم يكن مثل هذا الهاجس يتلبسني عند كتابة النص، ولست أبرر ما فعلت، فغايتي كانت الصدق مع ذاتي والكتابة، والتجربة الكتابية للكاتب ذاته غير ثابتة، وإلا لأصبحت تكراراً لا يحقق الغرض من الكتابة.

التجريب المفتوح هم ينازعني دائماً، للتنويع والخلاص من مخزون البئر العميقة، وربما في هذه التجربة الأخيرة بصدق، وبدون أنّ أعمد بندم على ذلك حدث هذا التقاطع ليصبح السارد جزءًا من شخصيات النص، فالشخصية تمثل أهم مكونات النص الحكائي، ويرتبط بها الفعل الذي يتقاطع مع نسيج الرواية، ويتشكل في كل تجليات رواية «منابت العشق»، وقد حفلت بثلاث شخصيات رئيسية وكل شخصية لها تفرعات، تحمل عوالم متنوعة ومتباينة، إحداها شخصية الراوي العليم، وأخرى وهي شخصيات غزيرة وثرية ومتنوعة، تحقق غايتي كواقع كتابي سردي تسجيلي، وأحدثت الالتباس الذي يشير إليه السؤال في ذهن القارئ، القارئ الذي يكمل أفق التجربة بالتأويل، كما أزعم وذكرت ذلك من قبل، ليضيء جوانب خفية من النص بالأسئلة وهذا شيء مبهج، وهذا ما ابتغيه من السؤال، إذ يحقق من ناحية أخرى الجدلية المنشودة.

ثنائية «المكان والزمان»

* بدأت أحداث الرواية في زمن معين إبان أحداث الخليج، وانتهت في زمن أحداث الثورة السورية، ومرت سريعاً على الفترة الزمنية الطويلة بينهما، لماذا؟

- إذا قسمنا الزمن إلى قسمين داخل الرواية وخارجها، فهو يبدأ بزمن أبعد من أحداث الخليج، ولكن تلك الأحداث لابد أن تكون مؤثرة، وقد نجد ملمحا منها بالتأثير على الشخصيات أو بعضها، لكنها ليست البداية وليست غاية الخطاب السردي، ولست أعرف ما إذا نجحت في الإمساك بناصية زمنٍ يتقاطع في كل الاتجاهات بما يقتضيه الفعل السردي، فالبنية السردية في الرواية لم تكن تعنى بتسجيل وقائع الحروب، سواء أكان ذلك في أحداث الخليج أو الثورة السورية، والحروب المعاصرة فعل معاش للروائي، ولو كان ذلك ينطبق على روايتي «ثلاثية المكتوب مرة أخرى» فربما رأيت ذلك ممكناً، وزمن الرواية التي نحن بصدد الإمساك به يتمدد مع شخصياتها، وينمو ويتصاعد على جسدها حيناً، ويتخذ ما يسمى «فلاش باك» حيناً آخر، يتحدد ذلك حسب مقتضيات السرد.

هذه الأبعاد الزمنية أحدثت خللاً غير مقصود في بنية المكان، وأخلت بثنائية «المكان– والزمان» التقليدية، وغيبت جماليات المكان التي من الممكن استحضارها، ولهذا حدث الانفصال بين الزمن السردي من داخل النص ومن خارجه، ولم أتوقف طويلاً عند هذه الإشكالية في كتابة الرواية، لأنّي كنت محتشداً بما يكفي بمصائر الشخصيات الرئيسية والفرعية المتوالدة عنها، ولعل إحدى الشخصيات الفرعية المتوالدة كالزمن المعاصر تماماً، قد أوحت بأنّ الرواية تنتهي في أحداث الثورة السورية، والواقع أنّ مصير تلك الشخصية المتفرعة من الرئيسية قد تمدد مع الزمن اللائق بها وهي المنتهية.

أريد أن أقول إنّ الرواية لا تقفز فوق الزمن، الرواية تغوص في «منابت العشق» وتعنى بالنهايات، ولا يعني أن مصائر الشخصيات، تؤرخ للحروب أو تكون جزءا منها، صحيح أنّ الرواية خاضت في منابت متنوعة ومتعددة، وبالضرورة لابد أن تنبت لنا سيرا جديدة، تفرض حضورها على جسد النص وفاعليتها، ويبقى للزمن دلالته بالتأكيد، كمكون مهم من عناصر الحكي السردي.

تصاعد الأحداث

* لاحظت كقارئ تركيز الرواية على الأحداث وتصاعدها على خلاف ما اعتدنا في الرواية المحلية من توقف طويل لاستبطان الشخصيات ووصف مشاعرها الداخلية.. حدثنا عن وجهة نظرك بهذا الخصوص؟

- الحدث الروائي المتصاعد هو البطل المتوج لنص الرواية، رواية «منابت العشق» هي الرواية الثامنة في مسيرتي الكتابية، وأريد التأكيد بأني لم أهمش بقية العناصر المكونة كبناء ولغة وشخصيات، ولكني بعد هذه التجربة الكتابية الطويلة علي أن أسعى إلى ابتداع وتجديد يحقق غايتي، وقد ذكرت أكثر من مرة أنني لا أحب عبور ممرات مضيتها من قبل في مشروعي الكتابي، فاستبطان الشخوص المتنوعة وكشف مخبوئها فعل روائي مهم، ولا يمكن لروائي أن ينجز شيئاً مهماً بدون أن يعمد إلى هذا الفعل، سواء ب»المونولوج» الداخلي أو بغيره، والشخصيات التي تفرض وجودها وتطغى على جسد كتابي وسرد روائي متعددة وكثيرة، وقد فعلت هذا كثيراً في أعمالي الأولى، وتحضر ربما أيضاً في هذه الرواية، وأظن بأنّ الرواية لم تفرط كثيراً في المسائل الحوارية، واقتصدت إلاّ بما يقتضيه الحدث، وبما يجعل الشخوص تتقاطع مع بعضها، لتحقق الممارسة التواصلية لتصاعد الحدث.

ديوان العرب

* تحدثت الرواية عن طبقة اجتماعية معينة، لم نعتد على وجودها في الرواية المحلية، لماذا؟

- الواقع يقول إننا مجتمع متكامل أو هكذا يفترض، والرواية فن شمولي مواز للواقع، ولست جريئاً بما يكفي لهدم حواجز مجتمعية قائمة، ونفي شريحة بذاتها، كما لم اختر أخرى لتبسط حضورها على جسد «منابت العشق»، ولكنه فعل كتابي طبيعي وتلقائي يحقق ذاته، قد يلجأ كاتب إلى الشرائح المضطهدة والمقصية؛ ليطرز بها نسيجه الكتابي بقدر المتحقق في شرطها الكتابي والحياتي، الكتابة الروائية المحلية أصبحت الآن تشكل ركاماً هائلاً، وشكلت طفرة كبيرة في السنوات الماضية، ووسمت من البعض ب»ديوان العرب» الجديد، لأنها تختلف عن الجنس الأدبي الآخر «الشعر»، ولكونها تغوص في كل الطبقات المجتمعية المتنوعة بلا نخبوية، والرواية المحلية التي تلفت الانتباه لها خارج حدود الوطن، لكونها تعطي في نسيجها صورة، وملامح عن شرائح هذا المجتمع.

السفر لليمن

* سفر الراوي في الرواية إلى اليمن، لم يكن مبرراً بشكلٍ كافٍ، ما رأيك؟

- شخصيات الرواية الذين مضوا في كل الاتجاهات، شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً بما يقتضيه الحدث، أظن أن في هذا الفصل الكتابي من الرواية بالذات نبوءة، وقد رصدت في هذا الفصل حدثا جرى منذ سنوات بعيدة، وكشفت عن نوايا ما يحدث الآن في اليمن، وكأنها تستقصي بدون قصد، وتستقرئ ما يحيط بنا من غدر ومكر، جاءت على ألسنة شخوص يمنية، صادفتها الرواية واستبطنت خطابها العدائي والمحب على حد سواء، أصدقك لم يكن لي دور غير رصد تمليه مقتضيات حدث روائي، ولكني الآن بعد كل تلك السنوات من الحدث والكتابة أتذكر بدهشة كيف قادتني بوصلة الكتابة للكشف عن كل تلك المشاعر وذلك المخبأ، وحتما لم يكن ذلك إلا من خلال الحوار بشفافية، والكتابة بمصداقية متناهية ومحايدة.

اليمن كوطن لنا في خاصرة الجزيرة العربية، لم يكن مناسباً أنّ يظل بيئة غامضة ومجهولة بالنسبة لنا، وهناك مئات بل ملايين من الإخوة اليمنيين يعيشون بيننا، وقد ذهبت في رحلة مع الوفد الثقافي في الأيام السعودية باليمن، وخدمتني الظروف برفقة زملاء وأصدقاء، أحدهم شاعرنا الكبير الأستاذ محمد الثبيتي -رحمه الله-، لنتجول في مدن ومناطق اليمن الشقيق، ونقابل الناس البسطاء من الناس، ونلمس محبتهم لنا وهي محبة لا تخرج من أقبية الحقد العدائي الظاهر الآن، وبالتأكيد لا أقر السؤال بأنّ السفر غير مبرر، لأكثر من سبب إنساني وكتابي.

تيار الموت

* النهاية الفاجعة والمؤلمة ل»أحمد» وهو ابن لوالدين منفتحين وعصريين، كيف تفسرها؟

- جميل هذا الالتقاط والتأويل أيضاً، هذه الدراما التي تصفها بالفاجعة والمؤلمة، نبتت من لحمة الواقع الذي نعيشه، وقد تكون اللقطة الواقعية التي بين ايدينا، ولها ما يشابهها كثيراً على ارض الواقع، ولو اختلفت النهايات المؤلمة والمفجعة، والرواية لا تقوم بدور الناصح، ولكنها تكشف عن واقع بات معلوماً ومعروفاً، فالنهاية التي قادت (أحمد) من منابت الإرهاب إليها، هي الحواضن والمنابت التي دفعت مجرما، وقتل أبناء عمه وآخر إلى تهديد والديه، وثالث إلى قتل خاله وقد يقتل المجتمع كله، إذا تهيأت له السبل إلى فعل ذلك، أحمد نبت في حضن والدين منفتحين على الحياة، ولكن تيار الموت اختطفه، ليذهب إلى النهاية البائسة التي ذهب إليها، والرواية تسجيل واقعي لنهاية صادمة للعقل والفكر، الواقع الذي تلبسنا في حالة غفلة، لا يحسن أن نبدلها بمسمى الصحوة، ما لم ننتبه للمنابت والمسارب الشائكة.
-------------------
المصدر: صحيفة الرياض